من الغزالي وابن رشد إلى نجيب محفوظ وجوخة الحارثية

   ضجت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي مؤخرا بفوز الأديبة العمانية جوخة الحارثية بجائزة مان بوكر العالمية "إنترناشيونال مان بوكر" عن روايتها "سيدات القمر" وهي جائزة بريطانية مرموقة تمنح عن الأعمال الروائية المميزة والمنشورة باللغة الإنجليزية -المكتوبة بالإنجليزية أو المترجمة إليها- وكان الزخم المصاحب لفوزها ، نتيجة لكونها أول مؤلف عربي يفوز بهذه الجائزة صعبة المنال.علما بأن الأكاديمية الإنجليزية مارلين بوث هي من قامت بترجمتها.
رافقت أصداء الفوز ، إشادة هائلة بهذا الإنجاز العربي العماني ، ليتبعها طوفان جارف من الجرح والثلم في شخص الروائية من قبل بعضهم وفي أصالة ما كتبته ولاأخلاقيته حسبما يرى البعض الآخر فضلا عن إرجاع الفضل من قبل آخرين إلى المترجمة فحسب ، مقصيا دور المؤلفة -والذي هو الأكبر بطبيعة الحال- ناسبا الفضل كله إلى المترجمة. وكان جليا لكل من تابع مواقع التواصل خلال الأيام المنصرمة ، أن كثيرا ممن انتقد أو لا يزال ينتقد الرواية أو الروائية ذاتها ؛ ممن لم يقرأ في حياته كتابا! ، فركب الموجة مع الراكبين..
كل هذا ، جعل الأفكار تتدافع للكتابة عن الأمر ، واستحضرت الذاكرة أحداثا سابقة من تاريخنا العربي كلها تدلل على أن الدائرة التي ندور حولها ، هي هي ولم نتغير ولم تتغير هي حتى وإن تبدل إطارها ، أعني الفترة الزمنية.
يستحضر العرب خاصة والمسلمون عامة ، شخصية عربية ظلت حاضرة في فكرهم وعقولهم بل وواقعهم -لدى كثيرين- حتى اللحظة. شخصية أسهمت في تشكيل الحاضر الإسلامي كما فعلت في ماضيه ، إنها شخصية الإمام الغزالي المعروف بحجة الإسلام.
كان للعرب تأثير في المتن الفلسفي العالمي قبل العربي ، ولولا ما نقله فلاسفة كالفارابي وابن رشد من كتب الفلاسفة القدماء ؛ لضاعت كثير من أصول هذا العلم –يرى بعض الفلاسفة أن الفلسفة لا تصنف كعلم بل هي أرفع منزلة منه "أم العلوم كما كانت تسمى"- إن لم تكن كلها. وما أشبه اليوم بالأمس! ؛ فقد حجّم كثير من الفلاسفة والمؤرخين الغربيين دور الفلاسفة العرب وتأثيرهم على المساق الفلسفي ، عادّين إياهم مجرد نَقَلَةٍ ومترجمين للفلسفة الأولى ، جاحدين ما أضافوه إليها. واليوم ، يحجّمُ كُثر دور جوخة وجودة ما كتبته ، عادين المترجمة صاحبة الفضل الوحيد. وهنا يتساءل المرء ، هل يمكن لعمل ضحل أن ترفع من مكانته مترجمة ممتازة؟ أم أن العمل العظيم يرفع نفسه بنفسه ويقتصر دور المترجم على نقله فإما أن ينقله أقرب مايكون إلى جودته الأولى أو على النقيض من ذلك ، أي أن يخفض من قيمته إن هو ترجمه ترجمة سيئة؟ ولا ريب أن الإجابة عن هذا السؤال واضحة بيّنة لكل ذي بصر وبصيرة.
قرر الغزالي مرة أن يقرأ الفلسفة ويضطلع بها -كما ذكر بنفسه في سيرته الذاتية المسماة "المنقذ من الضلال والموصل إلى ذي العزة والجلال"- ، فأخذ يقرأ كتب الفارابي وابن سينا ظنا منه أن الفلسفة هي ما نقلوه فحسب ، لا أنهم نقلوا شيئا ولم ينقلوا العديد من الأشياء لسبب أو لآخر ، وافتخر بكونه قرأ كل ما كتب في الفلسفة في ذلك الوقت وادعى بأنه حوى ما فيها خلال سنتين إلى ثلاث سنوات. ولم يدر الغزالي أنه قرأ المترجم من كتب الفلاسفة ولم يقرأ شيئا مما كتبه الفلاسفة ذاتهم بلغتهم الأصلية ، وأعني هنا فلاسفة الإغريق. فألف كتابين في الفلسفة سمى أحدهما "مقاصد الفلاسفة" وأتبعه بكتاب "تهافت الفلاسفة" ، وهذا الأخير من أكثر كتبه شهرة وتداولا إلى اليوم. وفي كتابه "تهافت الفلاسفة" ، ذهب الغزالي إلى تكفير الفلاسفة في ثلاث مسائل وتفسيقهم في سبع عشرة أخرى ، ليولد بعد وفاة الغزالي بخمس عشرة سنة فيلسوف وفقيه شهير وهو قاضي القضاة ابن رشد وذلك في سنة 520هجرية/1126ميلادية وهو المشهور بابن رشد الحفيد. ويقوم هذا الأخير بكتابة أحد أبرز الكتب الفلسفية وهو كتابه الموسوم ب"تهافت التهافت" ليفند ويمحّص ما ذهب إليه الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة" ويبين تهافت الغزالي فيما ذهب إليه. ولكن ، ولمكانة الغزالي ومكانه ، أعني كونه عالم الدين الأبرز في دولة الوزير نظام الملك وذلك في قلب ومركز العالم الإسلامي آنذاك بغداد –وذلك لاعتبارات سياسية وطائفية ليس هذا مكان ذكرها- ، فانتشر كتابه "التهافت" في الآفاق انتشار النار في الهشيم ، فأخذ يقرؤه ويدرّسه بعض الفقهاء هنا وهناك في الدولة الإسلامية السنية الممتدة. ولمكانة الغزالي الدينية ؛ فلم يمحصّ أحد ما كتبه ويتتبعه من مصادره ، إلى أن جاء الفقيه والفيلسوف ابن رشد. فانتشر حكم تحريم الفلسفة في العالم الإسلامي مذ كتب الغزالي كتابه إلى يومنا هذا ، وذلك مرة أخرى لأجل مكانة ومكان الغزالي ، حيث لم يكن للأندلس -حيث كان ابن رشد- لتقارع بغداد أبدا ، وذلك للموقع الاستراتيجي لبغداد حاضرة العالم الإسلامي وللرقعة الممتدة لدولة السلاجقة ، فتهافتَ الناسُ تهافتَ التهافتِ نفسه ، وجثم حكم تحريم الفلسفة على الفكر الإسلامي إلى اليوم رغم بروز عدد كبير من فلاسفة الأندلس كابن طفيل وابن زهر. ولأجل ذلك نجد نفور الناس من الفلسفة إلى اليوم ، ورميهم كل ضيلع بها أو متعلم لها بالكفر والزندقة.
وكي لا أنسى ، فإن ابن رشد كان عليما بالإغريقية ، فنقل مؤلفات أرسطو إلى العربية ، وذلك على النقيض من الغزالي الذي لم يكن يجيد تلك اللغة ليقرأ الفسلفة بلغتها.
وبالعودة إلى جائزة المان بوكر ، فإن المرأة الحائزة عليها لأول مرة يفوز بها مؤلف عربي ، تذكرنا تماما بفوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب عن روايته "أولاد حارتنا" ، ولقي نجيب من ويلات المجتمع وبعض المحسوبين على الثقافة ، ما تلقاه مؤلفتنا اليوم ، وكأن التاريخ يعيد نفسه!. فمن قدح في شخصهما ، إلى ادعاء معرفة ما أراداه من عملهما الأدبي ، إلى تفسيقهما من قبل المجتمع والسلطة الدينية على السواء ، واجتزاء عملهما الأدبي اجتزاء مُخِلا وتأطيره في مشاهد جنسية أو ربوبية ، والبعد عن قراءة النص قراءة متجردة من الآراء المسبقة والأُطر الضيقة.
ولو عدنا قليلا إلى الواقع الماثل بين أيدينا ، لوجدنا أن كثيرا من الكتب تحمل تشويها لدين أو عقيدة أو طائفة أو دولة إن هي اجتزئت من السياق الذي وردت فيه ، بل وتعلمنا صناعة الإعلام أن المرء يمكن أن يوصل الرسالة ونقيضها إن كان المقطع كاملا أو على النقيض إن كان مجتزأً. ولو  جئنا إلى دائرة الدين ، لوجدنا أن اجتزاء آية عن سياقها ، يؤدي إلى نقيض تلك الآية!. فالآية "ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون" ، تؤدي إلى نقيض الرسالة التي تريد أن توصلها لو اجتزأنا "ويل للمصلين" لوحدها!. هكذا يتبين أن على المرء أن يقرأ الكتاب كاملا وفي سياقه الذي كُتِبَ فيه وأن يشاهد المقطع المرئي كاملا ، والصورة الفوتوغرافية كاملة ؛ لتتضح له معالم الحقيقة ، ويدرك الصواب من الخطأ.
هكذا يعيدنا الزمن إلى سبب تحريم الفلسفة لمثقف لم يُلمّ بها ، وهكذا يحيلنا إلى ما لاقاه نجيب سابقا وما تلاقيه جوخة الآن. لنخلص إلى أن القارئ العاقل ، من يقرأ الكتاب ، أي كتاب، متجردا من أفكاره المسبقة عن ذلك الكتاب ، ومن التشويه أو التمجيد على السواء. وليس من داع للرد على الأصوات التي تخرج من هنا وهناك لتنتقص من قيمة الرواية أو الشعر أو الأدب بعامة ودورها كلها في تطور ورقي الحضارات والأمم. وهكذا تتشابه أيام الحاضر بأمسها القريب والبعيد على السواء في أن فكرة مغلوطة واحدة ، يمكن لها أن تحجب عن العقول السليمة ضوءا كان يمكن له أن يرفعها بين الأمم ، وهنا يتجلى دور المثقف البصير المنتمي إلى نفسه والمحسوب عليها لا إلى أي مؤسسة أو فريق ، في أن يبين للقراء أولا وللمجتمع ثانيا ضلال فكرة ما أو عادة جاهلية. فهذا سبيل تغيير المجتمع ، وما رُقِيُّ أمّة ما ، إلا برقيٍّ كل فرد من تلك الأمة. فالدولة ترتفع أو تنخفض على قدر ما يكون عليه أفرادها من رفعة أو انحطاط.



علاءالدين الدغيشي 
istagram
_eagle_eyes@


27 May 2019

تعليقات

  1. هنا يا علاء اجزت كل شيء، وما أشبه الأمس باليوم ..
    إذا قلت من رأيي "التاريخ لا يتكرر نفسه ولكن البشر تعيد الاخطاء ذاتها" وهي ما اشبه اليوم بالأمس
    ..

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة