أمل دنقل - دار رسلان

قد تقرأ ديوانا لا تجد فيه سوى قصيدة واحدة تغنيك عن الديوان بأكمله ، وقد تقرأ ديوانا كاملا وكأنه قصيدة واحدة عذبة ، أو ملحمة طويلة خالدة ؛ وهذا الديوان مما ينتمي للنوع الثاني.
من يقرأ لأمل دنقل ذلك الشاعر الذي يقول "آه من يوقف في رأسي الطواحين..." يرى الطواحين وهي تدور في عقله ، ويسمع أنين مراوحها في كلمات قصائده وأشعاره. أمل دنقل ، ذلك الجنوبي الذي طحن التاريخ ، وعجنه ، فأخرجه لنا خبزا ناضجا يضج بالحياة.
فمن قصة كليب والزير ، خرجت "لا تصالح" لتصبح وساما وشارة لموقفه من القضية الفلسطينية والصلح المصري الإسرائيلي. وتجد عند الشاعر صدقا وعذوبة ، فهو نصير الفقراء المستضعفين ، وما "كلمات سبارتاكوس الأخيرة" سوى أنموذج عن هم الشاعر وقضيته ، الفقراء والمستضعفون ورجال المباحث.
هنا يحيي لنا المتنبي في قصيدته "من مذكرات المتنبي" ، وهناك يحلل ويرينا رؤيته للفتنة الكبرى في قصيدته "حديث خاص مع أبو موسى الأشعري" ، ثم يعرج بنا إلى زرقاء اليمامة في "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة". والقارئ للديوان ، سيدرك لا محالة موسوعية هذا الفذ ، ليحلق معه فوق سهول التاريخ وهضابه ، ويرى الجند والمستضعفين ، ويرى حوادث كثيرة بنظرة أخرى جديدة تؤكد إبداعه وبصيرته كما في قصيدة "مقابلة خاصة مع ابن نوح".
هذا الرجل الصادق ، رغم وفاته المبكرة وهو في سن الثالثة والأربعين ، ظل علما بارزا رغم قلة قصائده المجموعة في ديوان كامل. أما هذا الكتاب الذي بين أيدينا ، فهو مختارات من قصائده مرفقة بدراسة عن شعره وحياته بقلم هاني الخير.
من يقرأ الدراسة المرفقة بالكتاب ، لن يمسك دمع عينيه وهو يرى الشاعر يذبل في مثواه الأخير ، وكأن سخرية القدر تعيد على مسامعنا أبياتا لأمل ولكنها هذه المرة عن أمل ذاته! "حزنك حين ترى برعما في الحديقة يذوي" ، "نائما كنت جانبها، ورأيت ملاك القُدُس
ينحني ، ويُربِّتُ وجنتها
وتراخى الذراعان عني قليلا.. قليلا
وسارت بقلبي قشعريرة الصمت
أمي.. وعاد لي الصوت
أمي.. وجاوبني الموت
أمي.. وعانقتها ، وبكيت
وغام بيَ الدمع حتى احتبس"
وفي نظري ، لم ينجح أحد من شعراء القصيدة الحديثة في الوصول إلى الناس والنزول إلى حياتهم البائسة وهمومهم اليومية كما نجح أمل ، فقدظلت القصيدة الحديثة حكرا على المثقفين لتعاليها ورمزيتها العالية ، أما عند أمل ، فهي واقع حي وهموم متجددة وآمال تلتمع في أعيننا.. نحن البسطاء.
أمل العظيم ، أمل البصير ، أمل الرمز ؛ فلترقد بسلام في مهجعك ، يا شاعر المسحوقين ، البائسين ، المستضعفين ، تحت رايات الطغاة القاتلين..

@eagle_eyes_