أبو العلاء المعري إجمالا ، ورسالة الغفران خصوصا
لأن أبا العلاء المعري غني عن التعريف والتوصيف والكتب له وعنه كثيرة ،
سأدخل في صلب الموضوع مباشرة.
اعتدت القول والتوكيد على أنني أؤجل قراءة مقدمة الكتاب حتى أنني أجعلها
خاتمة له ، وإن كنت أكرر توكيدي بهذا الشأن عموما ، فإنني أؤكده خصوصا لمن أراد
ويريد قراءة شيء من كتب القدماء كالمعري والتوحيدي والهمذاني والجاحظ وغيرهم ؛
وذلك كي نقرأ الكتاب بتجرد من الأحكام المسبقة أو المعلبة لمحققي وشراح الكتاب ،
ولَئِن كان هذا المنهج حريا بالاتباع لكتب المحدثين ، فإنه أولى وأجدر أن يتّبع
لكتب القدماء الذين انقطعت عنا سيرهم وحالت الأحقاب الطويلة بيننا وبينهم. فمن
يقرأ كتب أحد هذه القامات الشامخة ويعود لقراءة المقدمة بعد قراءة متن الكتاب ،
سيجد بونا شاسعا بين ما كتبه مؤلف الكتب وما كتبه ويكتبه المحققون والشرّاح
المحدثون عن الكتاب ؛ حتى ليُشدَه مما كتبوه عن الكتاب ومؤلفه!. وحيث أنني قرأت
رسالة الغفران أولا وعدت لقراءة مقدمة محقِّقَي الكتاب ختاما ، فإنني وجدت ما
يستدعي الكتابة عنه بغضب وبأحرف من نار.
فرسالة الغفران -وهو أحد أعمدة الأدب العربي والذي يُقال أن دانتي ألييغري
استقى منه كتابه "الكوميديا الإلهية" لم ينل حظه من الشرح والتعقيب
والاهتمام الجاد- هي رسالة كتبها أبو العلاء المعري ردا على صديقه العالم اللغوي
ابن القارح ، وتدور أحداث الرسالة في الجنة ، حيث يلتقي المعري وابن القارح بجمع
من فطاحلة اللغة والشعر والأدب في الجنة ، وبالعتاة من صنف هؤلاء أيضا إضافة إلى شخصيات
تاريخية في الجحيم ، واعتمد المعري في رسالته أسلوب المحاورة. ومما تتميز به هذه
الرسالة العظيمة ، أن المعري يذكر فيها بكل جلاء آراءه في عدد من الشعراء ومواطن
القوة ومكامن الضعف في أدبهم -الأديب القوي والضعيف على السواء- وتتجلى في الكتاب
موسوعية المعري وعلمه الزاخر وذاكرته المتقدة ، كما تتجلى أيضا النزعات الفلسفية
والأدبية والإيمانية والتاريخية لأبي العلاء. وحيث أن قارئ الكتاب سيجني الشهد
المصفى ، فلابُدَّ دونَ الشهدِ من إبرِ النحلِ ؛ فالكتاب يتطلب معجما في الحالة الطبيعية
لفهمه ، ويتطلب معاجم كثيرة بسبب التحقيق السيء الذي أساء إلى الكتاب بدءا
بالمقدمة وليس انتهاء بالهوامش.
ففي المقدمة نجد أن أبا العلاء كان زنديقا ملحدا ، وفيها نجد أنه كان مؤمنا
ورعا!!! ؛ وهذا التأرجح في الرأي عائد إلى ما ذكره محققا الكتاب نفسهما اللذان
ذكرا أن أبا العلاء تعرض للكثير من التدليس بسبب خصومه والناقمين عليه. ثم إن
المنهج العلمي لا يعتمد على شيء مثل "قال فلان ، سمعت فلانا يقول كذا
وكذا" فهذا مما لا يُعتد به علميا وهو معلوم. أما الأمر الثاني ، فهو أن ما
نسب إلى المعري -إن صحت نسبته إليه- قابل للتأويل كأي بيت شعر في العالم ، وما لا
يقبل التأويل -في نظر الحاقدين عليه- فإن تفسيره سهل ممتنع ؛ وهو أن سبيل الاحتكام
لا يكون سوى ما كتبه المعري ذاتُهُ استنادا على كتبه ومؤلفاته والتسلسل الزمني
لهذه المؤلفات.وإن لم تخنّي الذاكرة ، فإن نيتشه قال بما معناه "من خالقيها
وحدهم تستقى الفلسفة" ، وهذا يعني أن على من أراد قراءة عمل ما لمؤلف ما ، أن
يقرأ ذلك العمل بنفسه لا يقرأ عن العمل ، ولذلك نجد أن الأحكام الجادة تصدر عن من
قرأ ودرى لا عن من سمع فافترى وهو يظن أنه على حق وبصيرة. وإن كنا نكترث لإيمان
فلان قبل أي عمل آخر ، وإن كنا نتذكر هفوات الصبا وريعان الشباب وننسى ما تأخر من
عمل ، فلماذا لا تطبق القاعدة على عمر بن عبدالعزيز الذي يعد خامس الخلفاء
الراشدين! ، أو على مالك بن دينار! ، ولكن من يكيل بمكاييل مختلفة لهو فاسد الرأي
ضعيفه. والتسلسل الزمني لكتابة رسالة الغفران ، تعري تماما ما ذهب إليه محققا
الكتاب ، فلو كان المعري من الزنادقة لما آمن بالجنة رأسا! ، فكيف به وهو يحاكم
أبا تمام وابن برد وغيرهما؟ ، وهو يدفع الريبة والشك عن آل البيت وعترته وينافح
عنهم بالحجة والبرهان. من هنا تتجلى أهمية أن يقرأ الإنسان الكتاب بلا افتراضات
مسبقة ، بل بتواضع وتجرد تامَّين وهو يلج على طود أشم ليغترف منه بديع الحِكَمِ ،
وحُسنَ الحُكمِ.
أما الأمر الآخر ، فهو أن محقِّقَي الكتاب لم يكونا جادين في تحقيقه ؛
فالجاد في عمل ما لا يمكن أن تجده يكرر الخطأ ذاته عشرات المرات. فالقارئ سيجد
المعري يذكر في رسالته أطرافا من الكلام الذي يحتاج تفسيرا لنفهمه ، فلا تجد تفسير
ذلك الكلام أو شرح معناه في الهامش ، بل الطامة أن تجد الكلمة التي شرحها المعريُّ
في متن الكتاب ، مشروحة ومفصلة في الهامش من قِبل محقِّقَي الكتاب بطريقة مجانبة
للصواب ومعارضة لما قاله المعري!.
والخلاصة ، أن هذا العمل يشهد لابن القارح والمعري على السواء
بصفاء السريرة وسلامة المعتقد ورجاحة العقل ، وأكرر أن هذه النتيجة سيجدها من يقرأ
الكتاب بنفسه ، أما من يبحث عن الكتاب فسيجد ما ينفره عن قراءته وذلك للتدليس الذي
ذكرت وترديد الأحكام كالببغاء من فم لآخر دون قراءة العمل ذاته ومحاكمته بتجرد دون
أية فكرة مسبقة. كما يشهد العمل ببلاغة الرجلين (ابن القارح والمعري) وحصافتهما ومخزونهما
المعرفي.
رَغم كل هذا ، فإن من يتكبد رداءة الطباعة والتحقيق الذي أتحفتنا به دار
الكتاب العربي ؛ لن يستطيع الفكاك من سحر موسوعية المعري ، ولذة الحفر عن المعاني
المستغلقة ، ودهشة اكتشاف كلمات نستعملها في بيئتنا العمانية -أهل الداخل العماني
خصوصا- ، ولهفة اكتشاف النهاية ، كما حزن المودع المفارق. إننا أمام كنز أصيل يَحْسُنُ
بكل أديب ومحب للأدب أن يقرأه ويبحر فيه.
علاءالدين
الدغيشي
@eagle_eyes_
2020/3/28 - السبت
تعليقات
إرسال تعليق