العلم المرح - نيتشه

 

كعادة نيتشه المتفرد ، يحمل الكتاب عنوانا فريدا غير مألوف "العلم المرح" ، ومع فيلسوف كنيتشه ؛ ينبغي على المرء أن يقرأ كتبه وبيده مشرط جراحة ، يحلل الكلمات والعبارات ويحاول الوصول لما تحت جلد النص ، فنحن أمام عبقري اللغة المخاتلة وثعلب الفلسفة الأسطوري.

أما عن طريقة ومسلك هذا الكتاب فكما يقول المترجم علي مصباح عن نيتشه الذي يتوخى: "أسلوبا يجمع بين الشذرة ، والخاطرة والتحليل ، والشعر أيضا" وهي طريقة تميز بها فيلسوفنا واصطبغت بها جُلُّ أعماله تقريبا ، فكتاباته وإن تبدت وكأنها أشتات مؤتلفة ذات طرائق متنوعة لا التقاء بينها ؛ إلا أنه "يظل موجها بهاجس واحد هو تأطير الكل داخل رؤية ومنهج ، وبناء وحدة شاملة" عن الموضوع الذي يهدف إليه كتابه.

هذا الكتاب المخيف ، يجعلك تقشعر في كثير من مواضعه ، تلك القشعريرة التي تصيبنا ونحن نصل إلى غرفة المراقبة كما في فيلم

"Eagle Eye"

هذا العرّاف الكبير صاحب النبوءات المفزعة ، لكأنه نظر إلى المستقبل بلحظ الغيب وهو يكتب كثيرا من شذراته! ، خصوصا تلك التي تقصف الرأسمالية وتتحدث عن نتائجها في الوقت الذي لم تكن فيه -أي الرأسمالية- سوى رضيع في مهده لم يتيقن الأطباء من قدرته على النجاة ؛ لكن تبين أن ذلك الرضيع ، لم يكن سوى المسخ "إيفار" ابن "راغنار" ، شيطان الأرض الملائكي وتعويذة الهلاك البراقة.

يقف المرء مذهولا أمام نيتشه المتعدد ، مكتبة القرون البطولية ، حفار القبور الثمودية وملك الفلسفة البابلي ؛ فهل يكتفي بلغة نيتشه العذبة؟ أم بأفكاره المِطرَقِية؟ أم يذهل من رؤاه التي تحققت!. نيتشه المتعدد ، ذلك العبقري المجنون والقارئ النهم ، لا يستطيع المرء سوى النظر في كتاباته بعين الرجل الذي يقف أمام الإهرامات لأول مرة في حياته مُخَدَّرَ الأطراف.. رعدة كهربائية شاملة ، هكذا هي كُتُبُ نيتشه.

 

يقول نيتشه في إحدى مواضع الكتاب "لسنا من أولئك الذين لا يتيسر لهم التفكير إلا بين الكتب وبقادح من الكتب ؛ فعادتنا هي أن نفكر في الفضاء الرحب ، ونحن نتمشى ، ونقفز ، ونتسلق ، ونرقص ، ومن الأفضل فوق جبال نائية أو بجوار البحر ، هناك حيث تغدو الدروب نفسها في حالة تأمل وتفكر. وسؤالنا الأول حول قيمة كتاب ، أو شخص ما ، أو مقطوعة موسيقية هو: "أيستطيع المشي؟ بل وأكثر من ذلك ، هل يستطيع الرقص؟".. نقرأ* نادرا ، وبالمقابل نقرأ جيدا"

هذا الماكر الكبير الذي ينخدع به من لا يعرفه ، لم يكن رجلا عاديا ولا فيلسوفا عاديا ولا قارئا عاديا كذلك.

 كتب مترجم الكتاب في هامش الصفحة التي اقتبستُ منها يقول:

"* وهذا طبعا غير صحيح فيما يتعلق بيتشه ، فقد كان قارئا نهما وفي مجالات شتى : فلسفة ، بحوث علمية ، نقد أدبي ، شعر ، رواية ... حسب ما تفيد به إحالاته ، وكذلك دفاتر خواطره وما يسجله من مقتطفات قراءاته المتنوعة ، وتعليقاته."

 

ومن اعتاد على قراءة نيتشه ، يجد كلام المترجم موزونا بالغ الدقة ؛ فنحن أمام عقل غير عادي ألبتة ، ففضلا عن قراءاته الفلسفية الشاملة ؛ نجده يقرأ شعر حافظ الشيرازي ويعرج على كتابات الرحالة الذين زاروا الصحراء العربية ، بل ويتحدث عن النبي محمد كما في كتابه "نقيض المسيح" ، بل إن أبرز ما ألفه "هكذا تكلم زرادشت" لم تكن البطولة فيه لشخصية أوروبية ، بل لشخصية آسيوية محضة. ثم إن القارئ لهذا الكتاب ليدهش أمام تفكيكية هذا العبقري ، فلم يكن ربط موسيقى فاغنر بتشاؤمية -رومانسية شوبنهاور كما يسميها نيتشه- هي ما يثير الدهشة ، بل تجاوز ذلك إلى مجال مختلف تماما وهو مجال العلوم الطبيعية -كما في حديثه عن داروين/الداروينية- وربطها بفلسفة هيغل. وليس ما كتبته هنا هي الدلائل الوحيدة على موسوعية هذا العارف بالفلسفة ، الموسوعي المعرفة ؛ وإنما هي أمثلة متفرقة تضيء لنا وجها من وجوه الجوهرة المشعة للعقل النيتشوي.

يتألف الكتاب من مقدمة للمؤلف سبقتها ملاحظة حول عنوان الكتاب بقلم المترجم ، ثم "استهلال بقافية ألمانية" وهي مقاطع شعرية قصيرة بلغت 63 مقطعا ، وشذرات تراوحت بين القصيرة والمتوسطة إلى الطويلة جدا ، عِدَّتُها 383 شذرة مقسمة على خمسة كتب -فصول-. وملحق حمل عنوان "أناشيد الأمير الخارج على القانون" يجمع أربعة عشر قصيدة ، تتلوه الهوامش -من صنع المؤلف- التي جاءت منفصلة وفي ختام الكتاب ؛ وهي مقارنات بين مسودات عدة كتبها نيتشه وغيّر في بعضها حذفا وإضافة ، كما أن تلك الهوامش تحتوي قدرا لا يستهان به من الإشارات والكنوز الخفية لمريدي نيتشه.

يفتتح نيتشه الكتاب -الفصل- الأول بالحديث عن "القائلين بمقولة غاية الوجود" وباستنتاجه بأن الناس "يسعون دوما وراء غاية واحدة في كل أمر: أن يفعلوا ما يكون صالحا لحفظ النوع البشري" ثم يفند هذه الفكرة ويسهب في شرحها حتى يصل إلى الحديث عن "الضمير العقلي". حيث يدعو إلى التفكر والتفكير والنظر بعين غيرِ التي اعتادوا النظر بها في تعاطيهم مع ما يعتبرونه مسلمات. ثم تتوالى الشذرات من "النبيل والعامي" إلى "الرغبة في المعاناة" وهي الشذرة الأخيرة في الكتاب -الفصل- الأول. وما بين هذه الشذرات ، نجده يتحدث -بإشارات خفية أحيانا- عن كنط والأفكار العالية والوعي والحس الراقي معرجا على "الغاية من العلم" والقوة والحب وهو في مجمله توجيه إلى ما ينبغي على المرء -المثقف خصوصا- أن يكونه وفيه نصائح حقيقية لطالب المعرفة ولمريدي القوة المتطلعين إلى الحياة.

 

يتلوه الكتاب -الفصل- الثاني الذي يبدأ بالشذرة الموجهة "إلى الواقعيين" ، ويتحدث في هذا الفصل إلى المبدعين ، الفنانين -الذين يصنف نفسه ضمنهم وهو جدير بذلك- وشذرات كثيرة بعضها يعضد ما ذكره في الكتاب -الفصل- الأول ، والبعض الآخر ابتداءٌ عبقري متفرد ، وفي هذا الكتاب حض على الحياة المبدعة الراقية وحديث عن أدباء وفنانين وفلاسفة كشوبنهاور وشكسبير ، ليختم هذا الكتاب بشذرتين "الموسيقى كوسيط" ثم "اعترافنا النهائي بفضل الفن".

 

افتتاحية الكتاب -الفصل- الثالث -قد- تشير إلى ما سيغدو عليه هذا الفصل وما يتبعه من تفكيكية شاملة تسري على كل شيء تقريبا ، فهي "صراعات جديدة" تبحث "أصل المعرفة" و "أصل المنطق" و"السبب والنتيجة" وهو نقد -كعادة نيتشه- لما نعتبره مسلمات -أو ما كان يعتبر كذلك- ، وهو يحذر دوما من "تأنيب الضمير القطيعي" وفي هذا الفصل دفعة قوية للحياة ، ويتبدى ذلك في عنوانات الشذرات ك"عافية الروح" ، "المعرفة أكثر من وسيلة" ، "في أفق اللانهائي" ، "خطر النباتيين" ، التغيير الأكبر" ، "ما ينقصنا" ، "الكتب" وغيرها الكثير الذي لا يسع سرده. ومما تجدر الإشارة إليه في هذا الفصل ، أن الكثير من الناس يظنون –بل ويروِّج بعضهم - لفكرة مفادها أن نيتشه تشاؤميٌّ عدميٌّ ضد الحياة!. أكتفي بالرد على هؤلاء بشذرة من هذا الفصل عنوانها "المتشائمون كضحايا" وهؤلاء يكون أكثرهم "مفسد الذوق" جديرون بأن نعتبرهم "أعداء معلنين". يختم نيتشه هذا الكتاب -الفصل- بالتساؤل "ما هو ختم الحرية المكتسبة؟" ثم يجيب بأن ختمها يكون في "أن يكف المرء عن الخجل من نفسه أمام نفسه".

 

يبدو أن نيتشه شرع في كتابة الكتاب -الفصل- الرابع مطلع يناير من عام 1882م ، حيث يبدأ بقصيدة "يناير المقدس" تتلوها شذرة "بمناسبة العام الجديد" وفي هذا الفصل نجده يضع لبنة ك"معمار لرجال المعرفة" ويرشدهم إلى "فن العثور على الخاتمة" معلما إياهم كيف تكون "المِشية" محييا "ممهدي الطريق" ، وفيه ينتقل السؤال من كيفية المعرفة ، إلى "معنى أن نعرف"! ، منهيا هذا الفصل ب"بداية التراجيديا".

ربما يكون -الفصل- الأخير هو الفصل الأقرب إلي ، والذي وجدت فيه آفاقا عظيمة شاسعة ، ولأنني أنظر إلى الكتب كأناس عاشوا حياتهم ثم رحلوا ، فإن هذا الفصل يشبه عصارة رجل اسمه "العلم المرح" وهو متسلق قمة جبل المعرفة ، راكبا فوق ظهر أسده ، مستندا على حيته ، وعلى كتفه نسره ذو العين الفولاذية. هذا الفصل لنا "نحن الذين لا نعرف الخوف" ، وفيه يعالج نيتشه "الأخلاق كمشكلة" ، ويشير إلى "نقطة استفهامنا" مخاطبا "المؤمنين وحاجتهم إلى الإيمان" متحدثا "عن أصل العلماء" مرتين ، ولكنه لم ينس أن يكتب "إكراما للإنسان الديني" و"إكراما للطبائع الكهنوتية" كذلك.

كم كان نيتشه مدركا لذاته! ، يتجلى هذا في كل كتبه تقريبا ، ولم يكن هذا الكتاب نشازا عن تلك الكتب ؛ فهو يتحدث عن نفسه حين يقول "نحن الذين يساء فهمنا" ، ويتحدث نيابة عنا "نحن الذين لا وطن لنا" متسائلا عن "ما الذي يجعلنا لا نكون مثاليين" ، مطمئنا إيانا من أن نخاف من "أوقات البطء في حياتنا" ، وبعد أن وصل إلى الحديث عن "العافية الكبرى" ، كان لابد من "كلمة الختام" التي شعرت وأشعر فيها أنني عشت مع نيتشه وسمعته واستمعت إليه ، هذا العبقري الذي يقول في هذه الشذرة الخاتمة:

"لكن ، وفيما أنا أنهي ببطء رسم صورة هذا السؤال القاتم وبي رغبة في أن أذكّر قرائي بفضائل قراءة جيدة -ويالها للأسف من فضائل منسية ومجهولة!- ، يحدث لي أن أسمع من حولي تلك الضحكة الشيطانية الأكثر خبثا ، والأكثر مرحا: إنها الأرواح الشريرة لكتابي تهاجمني ، تسحبني من أذني وتدعوني إلى الانضباط."

 إنه الراهب وموسيقيُّ المستقبل ، هذا الذي لا يريدونه ، وها هو يخاطبهم :

"أهذا ما تريدونه ، أيها الأصدقاء الذين لا صبر لهم؟ حسنا! فمن تُراه يلبي لكم رغبة؟ هوذا مزمار قربتي جاهز ، وحنجرتي أيضا وإذا ما بدا لكم على شيء من البحة ، فلتغفروا لي ذلك! ونحن على أية حال بين الجبال. غير أن ما ستستمعون إليه شيء جديد على الأقل ؛ وإن لم تفهموه ، وإن أنتم لم تفهموا المغني ، أية أهمية لذلك! فتلك "لعنة المغني" على أية حال. وكلما كانت موسيقاه ونغمته أوضح في أسماعكم ، كلما كان رقصكم على إيقاع مزماره أفضل. أتريدون ذلك؟.. "

 

هكذا أودع صديقي نيتشه ، أودّعه وهو المعلم الذي لا يريد من مريدي معرفته أن يتصفوا بأشد ما يكرهه في كل زمان ومكان ؛ الحماقة والاتباع الأعمى. أودعه وأنا أحييه من جبال شاهقة لها نَغَمٌ غير الذي عزفه في جباله ، نيتشه الذي يحب الحياة ، يدفع إلى الحياة ، لا أتفق معك في كثير من رؤاك ، ولكني أجلك أيها "الناسك" المتكلم.

 

 لابد من كلمة صادقة في حق المترجم ؛ فأن تقرأ لمترجم شغوف بما يترجمه ، بحّاثة ينقّب عن خبايا المعلومات والكتابات والملاحظات ، التي خلّفها المؤلف ، بل ويتعداه لأن يغوص في كتابات ذلك المؤلف ويتتبعها حرفا حرفا ، عالما بمكان ووقت كتابة كل حرف منها ؛ هنا نقف أمام مترجم حق ، بل إن القارئ ليقف إجلالا لهذا المترجم للغته الفصيحة المتينة التي ندُرَت مثيلاتها في الأعمال المترجمة ، وهي ترجمة صلبة فريدة رِجلاها اللغة السلسة المترابطة والكلمات الدقيقة ترجمةً وموضعًا.

 

 

ما وضع بين معقوفين "" تم اقتباسه من الكتاب حرفيا ، بعض الكلمات تم تغييرها وفقا للاعتبارات اللغوية.

 

علاءالدين الدغيشي |  PM07:52

eagle_eyes_@

تعليقات

المشاركات الشائعة