والتقيتُ مانغويل! | 20 فبراير 2025

 


"وعلى أنِّي قد عزمتُ -والله الموفّق- أنّي أوشِّحُ هذا الكتاب وأفصِّلُ أبوابه بنوادر من ضروب الشعر، وضروب الأحاديث ليخرج قارئ هذا الكتاب من باب إلى باب، ومن شكلٍ إلى شكل، فإنّي رأيتُ الأسماعَ تملُّ الأصواتَ المُطْرِبَة، والأغاني الحَسَنة والأوتارَ الفصيحةَ إذا طالَ ذلك عليها. وما ذلك إلا في طريقِ الراحلةِ التي إذا طالت أورثت الغفلة. وإذا كانت الأوائل قد سارت في صغار الكتب هذه السيرة، كان هذا التدبيرُ لِما طَالَ وكَثُرَ، أصلح. وما غايتنا من ذلك كُلّه إلا أن تستفيدوا خيرا". الجاحظ.

هنالك اقتباس آخر أحبه، لكنه لفيلسوف وأديب وفقيه وشاعر، ماذا بعد؟. أعتقد أننا نستطيع القول بأنه جاحظ آخر جاء بعد الجاحظ الأول، وهو ابن حزم الأندلسي. يقول ابن حزم في كتابه ذائع الصيت طوق الحمامة في الأُلفة والأُلَّاف "..والبكاء من علامات المحب ولكن يتفاضلون فيه، فمنهم غزيرُ الدمعِ هَامِلُ الشؤون تجيبهُ عينُهُ وتَحضُرُهُ عبرتهُ إذا شاءَ، ومنهم جمودُ العينِ عديمُ الدمعِ، وأنا منهم. ..فإني لأصاب بالمصيبة الفادحة فأجد قلبي يتفطَّرُ ويتقطَّعُ، وأُحِسُّ في قلبي غصةً أمرَّ من العلقم تحولُ بيني وبين توفيةِ الكلامِ حقَّ مخارجه، وتكادُ تُشرِقُني بالنفسِ أحيانا ولا تجيبُ عينيَّ البتة إلا في النُّدرةِ بالشيءِ اليسيرِ من الدمع".


يبدو للوهلة الأولى أن لا ترابط بين ما قاله الجاحظ، وما قاله ابن حزم!؛ لكنني سأحكي شيئا. بدأت القراءة منذ عدة سنوات، وأعني بها القراءة الجادة؛ وكأي مجال آخر في هذه الحياة، يشعر المرء بالفتور والتثاقل في لحظات من حياته. وكعادة المُحبِّ، لا يملُّ من محبوبه مهما بدا الأمر على غير ذلك. جاءت لحظات الفتور والبطء إذن، لأكتشف حينها كنزا رائعا أعاد إلي الشغف مرة أخرى وبالحماسة الأولى نفسها؛ إنها الكتب التي تتحدث عن الكتب!. يمكننا تشبيه الأمر بالبحث عن الكنز المفقود، فكي تصل إلى كنزك الأكبر، تمر بمراحل تهديك من الكنوز الثمينة ما يجعلك تبتهج وتتزود بها لتصل إلى مبتغاك؛ حيث الكنز الكبير والحلم البعيد الذي سعيت إليه دوما. 

عرفت الجاحظ في مرحلة مبكرة من حياتي، وبدا لي بأن هذا الرجل مكتبة تمشي على الأرض؛ فلا تقرأ صفحة إلا وتجد لأحدهم ذكرا أو خبرا أو شعرا، كأنما هو صندوق الزمن الذي جُمعت فيه كشوفات الأولين والآخرين إلى اليوم الذي كتب فيه ما كتب. ومن الجاحظ ولجت إلى عالم ابن النديم. بدا لي الرجلان شخصيتين أسطوريتين، فكيف لأحد مهما بلغ من العلم أن يكون بمثل هذه الموسوعية والدقة والبراعة في آن، أو لنقل أنهما خرجا لنا من وادي عبقر الأسطوري!. جعلتني هذه التجربة القرائية أحب الكتب والمكتبات ومن يعمل فيها عمل الجاحظ وابن النديم. فتتبعت الأدباء المشهورين بولعهم بالقراءة والكتب، فلم تخيب محركات البحث ظني إذ عرفتني على جاحظ جديد، ولكنه جاحظ أرجنتيني، وهو المكتبي الأعمى خورخي لويس بورخيس. 

يماثل بورخيس الذي كان يعمل في مكتبة بيونس آيرس البلدية الجاحظ بموسوعيته الهائلة ومشاكله الصحية والتي أخذت من كلا المؤلفين نصيبا من الشهرة والمزية التي يمتازان بها عن الآخرين، وعبر القراءة له وعنه، عرفت تلميذه الوفي. وقعت يدي على كتاب عذب مدهش، ومؤلفه تلميذ بورخيس ذاته، ألبرتو مانغويل وهو كتاب تاريخ القراءة. أتذكر حينها أنني طبعت الكتاب في ورق A4 ولم أتمكن من الحصول على الكتاب بشكله المطبوع، ولكنني عشت تجربة استثنائية رائعة. وكعادة الكتب الجيدة، لن تترك الكتاب إلا وفي خلدك عدة كتب تريد قراءتها، ومؤلفين لم تعرفهم من قبل، تود أن تقتني أفضل كتبهم في أول فرصة سانحة لك.

أخذت الكتاب الثاني والثالث لمانغويل في التاسع والعشرين من فبراير لعام 2016م من مكتبة جرير بالدوحة، يوميات القراءة، والمكتبة في الليل؛ لتتوالى لُقى مانغويل بعدها وتصبح القراءة له فعلا اعتياديا. نعود إلى ما قاله ابن حزم إذن؛ فإن المرء لا يتاح له دوما ولا يتأتى له أن يبوح بما في مكنونات نفسه مهما جاش في النفس واعتمل من سعادة غامرة أو حزن جارح، بل إن البوح بما في النفس يغدو فعلا لا أسطوريا فحسب، بل فعلا ننتزعه من عالم المحال نفسه. فتتصارع العواطف بداخلنا وتهيج، ولكن هيهات أن نجد لها مخرجا أو تعبيرا نعبر به وعنه. ومن ذاك، وقوفنا أمام من نُجلُّ، أو رؤيتنا لمن نحب ونحترم، أو نتقدي حتى!؛ ومانغويل أحد هؤلاء.

ولأنني ذكرت الأساطير وعالم الخيال، فمن الصعب أن يجد المرء من تمنى رؤيته واللقاء به، ومن اقتدى واحتذى به، أن يكون على ما تخيل وافترض. بل إن الرِّدَّة والنكوص، والخيبة والأسى هي التي تعتمل في النفس عادة بعد اللقاء المنتظر، والفرصة المُتحينة. ولكن في حالة سيد الكلمات، والرجل المكتبة كما يسميه البعض؛ لا يستطيع المرء سوى أن يُجلَّ الرجلَ أكثر ويحبه أكثر بعدما يلتقيه ويتعامل معه. ولحسن الحظ أن كان لحفل جائزة بيت الغشام دار عرب الدولية للترجمة هذا الضيف الوازن الذي أسر إلينا أنه تلقى عدة دعوات من دول مجاورة بعدما تلقى الدعوة الأولى من الجائزة والقائمين عليها، فاختار عُمان وهو سعيد باختياره مبتهج به كما قال. من المثير أن مانغويل سألنا في جولتنا السريعة في مسقط ومطرح عن الآثار البرتغالية في عُمان، فأخذناه في جولة إلى الميراني التي كانت موجودة قبل وجود البرتغاليين، ومنها نظرنا إلى الجلالي وقصر العلم ببنائهما الأيقوني وأضوائهما الليلية الآسرة.

سألني في بهو الفندق عن المؤلف العربي الذي أحب، ولم أكد أجيب حتى أخرج قلمه ومذكرته الصغيرة ليقيد الاسم ويبحث عنه!. هذا الفعل البسيط والصغير ينبئك عن الشخصية التي بلغت السابعة والسبعين من العمر ولا تزال تنقب عن الكنوز المنسية في العالم، الكنوز التي قد لا تكون مترجمة من الأساس. أخبرته عن الجاحظ -الذي يعرفه جيدا واقتبسه في كتاباته- والتوحيدي وابن النديم، فسألني عن روائي عماني أحب ما يكتبه، فلم أتردد في اختيار محمد عيد العريمي صاحب مذاق الصبر وحز القيد. إن هذا التوق المتأتي من الإخلاص هو ما يجعل المرء يستشعر الفرق بين الحقيقة والوهم، بين الامتلاء والخواء، وكما هي الحالة التي وصّفها ابن حزم في كتابه، أجدني عالقا لا أستطيع الكتابة عن كل ما شاهدته في الرجل من ثقافة ومعرفة وتواضع عجيب ونادر. وحين نقول بأنه الرجل المكتبة، فهو كذلك حقا؛ فلم نتحدث في شيء إلا ويتحفنا بشيء من عنده. ففي رحلتنا السريعة إلى الميراني، أشرت إلى إحدى الأسقف فيها؛ وأخبرته أن بين العمانيين والنخلة من الوشائج، ما يجعلها أساسا لحياتهم وقواما لها. فمنها غذاؤهم، ومن سعفها يصنعون البُسُط والحقائب، ومن ليفها الحبال، ومن جذوعها وزورها أعمدة وسُقُفا للبيوت، ومن كربها وما تبقى مما لا يمكن استعماله في الصناعة، للتدفئة والطهي. فلم أكد أنتهي من كلامي حتى استحضر قصيدة سألنا فيها عن الأمير الأندلسي الذي قال قصيدة في النخيل، فقلت له لعلك تقصد عبدالرحمن الداخل؟ فأجاب مبتسما YES YES، وهي القصيدة

تبدّت لنا وسْطَ الرُصافة نخلةٌ                  

تناءت بأرضِ الغرب عن بلد النخلِ 


فقلتُ شبيهي في التغرُّب والنوى           

وطولِ التنائي عن بنيّ وعن أهلي


يمثل ألبرتو مانغويل في العالم الغربي اليوم، ما كان يمثله الجاحظ وابن النديم والأدباء الكبار الذين تقوم عليهم ثقافتنا وتاريخنا العربي. ويمثل للقراء، لكل القراء في العالم؛ أنموذجا للإنسان المخلص لشغفه وحبه وعمله، وهي الكتب والقراءة في حالته هو. تحدثنا معه في كثير من الأشياء التي لا يمكن حصرها، لكن الأثر الذي يتركه الإنسان بتعامله ولطفه ودماثته؛ هو ما يبقى حاضرا في الذاكرة والوجدان حتى بعد رحيله وغيابه. لا أستطيع أن أغفل شيئا أخيرا أكاد أتذكره بنبرته الحزينة والمضطربة في آن؛ وهو أن للرجل موقفا مما تفعله إسرائيل في غزة خاصة وفلسطين عامة. ولهذا الموقف أثره ووزنه حين يصدر عن مؤلف كمانغويل، وعن يهودي عاش في الأراضي المحتلة يوما قبل أن يكتشف الخدعة الكبرى!. إنه بتنويره هذا، يطبق ما يقوله في كتابه المكتبة في الليل، "قد لا تغيّر الكتب من آلامنا، قد لا تصوننا الكتب من الشرور، قد لا تقول لنا الكتب ما هو الخيّر أو ما هو الجميل، كما أنها بالتأكيد لن تقينا من المصير المشترك الذي يُدعى القبر، لكن الكتب تعطي آلاف الاحتمالات: احتمال التغيير، احتمال التنوير".



https://www.omandaily.om/article/1173561

تعليقات

المشاركات الشائعة