النسوية.. إرهاصات البداية | 10 أبريل 2025

 



تبدأ كثير من الحركات والأحداث الثورية في العالم باعتبارها نصيرا للمظلومين، مدافعة عنهم ومطالبة لحقوقهم، ثم ما تلبث أن تستخدم في مآرب أخرى؛ خصوصا في العصر الرأسمالي الحديث وككل نضال آخر في سبيل الحق، بدأ الأمر من منطلق الحق والعدالة؛ فلا يعقل أن تظل العبودية أو احتقار النساء أو ظلم الشعوب واستعمارها أو إبادة شعب أصلي، لا يعقل أن تظل كل هذه الأمور مبررة أو مشروعة، لذلك يناضل الإنسان لتحقيق ما كان ينبغي أن يكون بديهيا. فقد قاتل تشي جيفارا الرأسمالية الاستعمارية، ومات في سبيل مبادئه التي آمن بها؛ ثم تم استعمال جيفارا رأسماليا بطباعة صوره والأفلام عنه والاستفادة من بيعها ماديا. وهكذا حقوق النساء المسلوبة -في الغرب خصوصا- والتي يكاد يغيب ذكرها، وقبل أن تتحول الحركة النضالية من أجل حقوق المرأة إلى الاسم المعروفة به اليوم "النسوية". فالنسوية بطبيعتها المعهودة اليوم، لم تبق في تلك البؤرة التي تحدثت عنها وناضلت لأجلها نساء كثيرات في وقت كُنَّ يدفعن فيه حياتهن ثمنا لها، بل تطورت الفكرة وتطور النضال إلى أن وصلت النسوية إلى حالها وشكلها الآني.
لا يتم ذكر مصلطح النسوية إلا ويكون مرادفا للنقد والتمحيص وإثارة الجدل، فالنسوية شيء مختلف في تعريفاته التي تناولها مفكرو النسوية ومنظروها، ولكنه يتفق في المبدأ الكلي وهو محورية المرأة والنضال لأجل انتزاع حقوقها. ويمكننا القول بأن كتاب البريطانية ماري وولستونكرافت الشهير الذي نشرته عام 1792م "دفاعا عن حقوق النساء" أحد أهم الكتب التي أسست للفكر النسوي -إن لم يكن أهمها على الإطلاق- في مرحلة مبكرة جدا، وهو الكتاب الذي صدر بعد سنتين من صدور كتابها "دفاعا عن حقوق الرجال" الذي جاء ردا على المفكر السياسي الإيرلندي إدموند بيرك صاحب كتاب "تأملات حول الثورة الفرنسية"، وقد انتقدته ماري انتقادا لاذعا وحادا بسبب انتقاده للثورة الفرنسية واعتباره بأنها نذير شؤم ومعول سيهدم النظام الاجتماعي، وكذلك رفضه لقلب النظام الأرستقراطي وإسقاطه. وهو ما حفزها لاحقا إلى كتابة كتابها الذي يهمنا في معرض حديثنا عن النسوية ونشأتها الفكرية.
لم تطرح ماري فكرة واضحة حول النسوية وماهيتها، كما أنها لم تقم بنحت المصطلح الذي غدا رائجا ومتداولا ومعتبرا الآن؛ بل إن من السخرية بمكان أن يكون ناحت هذا المصطلح رجلا قصد به السخرية من المطالبين بالمساواة بين المرأة والرجل في الحقوق، وهو المؤلف الفرنسي الشهير ألكسندر دوما الابن في كتابه "الرجل-المرأة" وهو كُتيّب صغير الحجم، ومن خلال العنوان ذاته يمكن أن يقع الإيضاح وكذلك اللبس؛ وذلك لأن "الرجل-المرأة" هنا ليس من قبيل المقارنة بينهما، إنما من قبيل الشتيمة للرجال المتصفين بالضعف والأنوثة كما يراها دوما الابن، والإناث اللواتي يطالبن بالمساواة التي يرفضها دوما الابن بل وسخّر كتابه للسخرية منها، ومن التحولات الاجتماعية التي بدأت تتبدى في ذلك الحين في فرنسا خصوصا وأوروبا عموما، لذلك ترجمه البعض إلى "الرجل-الأنثوي" وهي الترجمة الأدق في رأيي.
يقول ألكسندر دوما الابن في الصفحة الحادية والتسعين من كتابه المذكور "النسويون -اسمحوا لي بهذا النحت اللغوي- يقولون: كل الشر يأتي من عدم الرغبة في الاعتراف بأن المرأة مساوية للرجل، وأنه يجب منحها نفس التعليم ونفس الحقوق التي يتمتع بها الرجل" ولينظر المرء في هذه المعركة الفكرية في التاريخ القريب، وفي تمثلاتها ومآلاتها في حال اليوم إن كان في فرنسا ذاتها أو في عموم العالم الغربي. ومن الجدير بالذكر أنه كان يرى بأن الحركة المطالبة بالمساواة تسعى إلى تحويل النساء إلى رجال، وتحويل الرجال إلى نساء. وليس لهذا الأمر علاقة بالمفاهيم الحديثة للجندر والجنس وتطوراتها بالضرورة.


لم يؤثر كتاب ماري التأثير الذي قلب الأمور رأسا ومباشرة، ولكنه كان حجر الأساس لكل ما بعده في سياق النضال لحريات النساء وحقوقهن، لأجل هذا كله لا يمكن أن نبحث تاريخ النسوية دون أن نذكر أثرها الثقافي والفكري. ولا يمكن أيضا أن نتغافل عن البدايات في معرض نقدنا للنهايات، أو لواقع الحال. كما أن الأحداث الأخيرة في غزة وما يحدث من انتهاك صارخ لكل قيم الإنسانية والنضال لأجل الحق، جعل كل الحركات المنادية بالحريات تحت المجهر. فكأن غزة غدت الميزان الذي تقاس به موضوعية الأفكار والمعتقدات والتصرفات التي تكون مع الخير أو الشر، أو مع الحق وضده، فما بدأ كنضال من أجل الحقوق؛ لا ينبغي بحال أن يكون مناداةً لحقوق تفضيلية بناء على عرق أو لون أو منطقة جغرافية. فالإنسان وقيمته وقدسية النفس الإنسانية، لا يحددها موقعه على الخريطة، بل الإنسان هو الإنسان في الشرق والغرب.


https://www.omandaily.om/article/1176315

تعليقات

المشاركات الشائعة