اللُّغَةُ كَأَدَاةِ سُلْطَةٍ | 03 يوليو 2025
ظلت مسألة حرية الأفعال لدى الإنسان مسألة ذات جدلية كبيرة في كل الأديان، وظل الناس في هرج ومرج لا يدرون لأي من الفريقين ينحازون وتحت أيٍّ منهما ينضوون؟. في الحقيقة فإن المرء يتحكم بجزء من أفعاله، ويظل جزء كبير منها غير منقاد إلى منطق واضح أو إرادة واعية، وإنما هي نتائج لأسباب شرطية تُشعِر المرء أنه يختار ما يشاء، كما يشاء، ومتى شاء. بينما هو في الحقيقة يكونُ لا مُسيَّرا فحسب، بل مُخَدَّرًا. فهو يظن بأنه اختار الشيء الفلاني بمحض إرادته الحرة، ولكن هناك أشياء من صنيعة بني جنسه من البشر هي التي تدفعه إلى اختيار ما يختار دون أن يشعر بذلك أو يدري به.
تمثِّلُ الأدوات الواعية نوعا من المُخَدِّر المُوَجَّه بدقة نحو تشكيل
المشاعر وإعادة تشكيل الوعي تجاه قضايا مفصلية ومصيرية تتعلق بحياة الإنسان.
فالإنسان -كما في علم النفس- إما أن يكون واعيا لقراراته وخياراته والذي يشكَل هذا
الوعي هو تأثره المباشر بتلك القرارات والاختيارات، ولو بعد حين. أو أن يكون
مُغَيَّبا أو واهما، فالأول لا يدرك وجود الخطر، والثاني ينفيه. فأن تُرَدَّدَ على
المرء عبارات معينة في وسائل الإعلام، وتستهدف عقلهم الواعي واللاواعي، بجعلهم
يختارون ما تريد منهم اختياره مع ظنهم بأنهم اختاروا ذلك الشيء بمحض إرادتهم وحُرِّ اختيارهم. فيرتبط العطش لديهم بمشروب
ما، والجوع بمطعم معين، والجمال بمعايير معينة، وهكذا. بينما في الحقيقة لم تكن تلك الاختيارات سوى
نتائج مباشرة لأبحاث هائلة تقوم بها الشركات والحكومات لنشر أيديولوجيا ما، أو
لتوجيه الناس لاختيار الخيار الفلاني، بما يتفق ومصالح تلك المؤسسات واستهلاكها
للفرد في دوامة مفرغة تشغله عن مصيره ومستقبله.
تمثل اللغة إحدى الوسائل الهامة في تغيير الأفكار والعقول وتشكيل وعي الناس
بواقعهم واختياراتهم وتوجيه تلك الاختيارات نحو اتجاه بعينه. فعلى سبيل المثال، ظل
الارتباط الشرطي لاستعمال اللغة الفصيحة في عقول الناس مرهونا برجال الدين من علماء
أو من العامة التي تظهر عليها علامات التدين -اللحية خصوصا- أكانت تلك الفئة من
العامة المتعلمة أو غير المتعلمة على السواء، ممن يتحدث بها -اللغة العربية
الفصحى- في الأمكنة التي تمثل الدين وقداسته وشعائره، ونظرا لأن وهم الحداثة ارتبط
أيضا بالشكل لا المضمون، فقد صار من الاعتيادي أن يتم ربط اللغة العربية الفصيحة
بالتدين. وسواء كان الأمر موجّها أم أنه جاء كنتيجة لأحداث ووقائع تاريخية متسلسلة
فرضت هذا الواقع، فقد صارت هذه الخلاصة من المسلّمات البديهية لدى كثيرين. يمثل الدين هوية أكثر
وأشد صلابة من الهويات الإقليمية الحديثة والمتغيرة، ولأن التدين يصل إلى الناس
عبر أُناس آخرين -يفسرونه، يشرحونه، يحللونه- فقد تغير في العقول المُستقبِلة له
فتغيرت نظرتهم إليه. وكي تستطيع أن تتحكم بأمة، تَحَكَّمْ بقادتها ورجالاتها، سواء
البارزين منهم والظاهرة قوتهم، أو أولئك الذين يملكون من وسائل القوة الناعمة ما
يتيح لهم التحكم بجموع كثيرة لا تشكك في كلمة مما يقولونه. لأجل ذلك، مثّلت
المركزية الدينية قوةً للدول في تحديد ماهية "الحق"، "الحقيقة"،
وتمثلات "جنود الرب" في مواجهة "الكافرين". وهذا ليس حكرا على
الإسلام، بل إن هذه الأفكار عينها مستعملة في أديان أخرى، ولينظر المرء في بعض
الرسائل الواردة في كتاب "شمس العرب تسطع على الغرب" -شمس الرب في ترجمة
أخرى- بين رجال الدين النصارى.
انعكس هذا الأمر على من يملك السلطة في مواجهة من يُراد إخضاعه، فقد استمر الصراع بين
من يبدون بالمتنورين ضد المتدينين منذ الأزل، وهو صراع وهمي تم تشكيله وفقا لمصلحة
من يملك الأمر، كي يبدو أنه خال من أي مُوَجِّهَاتٍ خارجية. هذا الصراع الذي أججته
دول سابقة كدولة نظام الملك واستعمالها للصوت الأشهر والأكثر ذيوعا بين الناس
وتأثيرا عليهم حتى اليوم "الغزالي" باعتباره "حُجّةَ الإسلام"
و"العالم الأوحد" وغيرها من الألقاب التي ترتبط ارتباطًا شرطيا بكونه
"مالك الحقيقة" ضد "الزنادقة" في أسوأ الأحوال، أو
"الضالِّينَ" في أحسنها؛ وهما الفئتان اللتان لا تأخذان رأيه باعتباره
حقيقة إلهية مقدسة، بل بأبعاد ذلك الرأي وطريقة فهمه وفقا للإنسان العاقل ذاته. هنا حدثت القطيعة
بين من يمثل التيار الديني الأوحد ومن يمثل التيار الثقافي الحر الذي لا يركن إلى
رأيٍ بعينه ويتمسك به باعتباره الحقيقةَ الواحدةَ، بل هو يبحث عن الحقيقة
باستمرار، لذلك ظهر كتابا "تهافت الفلاسفة" للغزالي والرد عليه في
"تهافت التهافت" لابن رشد.
هذه القطيعة أثرت على التيار الثقافي باعتباره الميزان الآخر في المجتمع؛
فكما أن المجتمع فيه متدينون كُثُر، فإن طائفةً كبيرةً منه ليست مُتديِّنَة وترى
في التدين -التدين لا الدين- نوعا من السلطة الاجتماعية لا غير. وقد تجلَّى هذا التأثير
في النفور من أية دلالة أو إشارة أو ارتباط بالتدين؛ واللغة العربية الفصيحة جزء
من هذه الدلالات، أليس كذلك؟. فهي لغة القرآن الكريم، ولغة الخطابة، ولغة الفتوى،
ولغة القضاء، ولغة الفقه، واللغة التي يُفهم بها الدين عموما. أي أنها لغة الذي
يعلم -في الدين-، في مقابل الذي لا يعلم. انعكس هذا الأمر على
فهم النصوص الدينية وعلى رأسها القرآن الكريم ذاته، ولأجل القطيعة السابقة، أصبح
العداء والقطيعة لا ممثّلة ومنصبَّة على الظواهر وتمثلات تلك الظواهر فحسب؛ بل تم
إسقاطها على الأشخاص وهيئاتهم. فمن اليسير الاستماع إلى أو القراءة لشخص لا تبدو
عليه مظاهر التديُّن وهو يتحدث عن الدِّين باستعمال الفذلكات اللغوية التي لا
يفهمها الناس عادة، فيتلقفونها تلقّف اللُّقية. وهو الأمر الذي يحدث في التيار
المضاد كذلك والذي يعتمد على اللغة ذاتها في اكتسابه للشرعية في سعيه لنيل السلطة
الدينية، ففي المحصلة فإن القرآن الكريم معجزة لغوية في نهاية المطاف. أي أن
الطرفان المتضادان، يستعملان اللغة ذاتها في إضفاء الشرعية على حديثهما ورأيهما، وفي
نقض مصداقية الطرف الآخر وسحب الشرعية منه.
إن أفضل مكان للاستيلاء على العالم منه وعبره، هو العالم العربي الكبير، فهو
المكان الذي تقبع تحته كنوز الثروات الطبيعية في العالم، وموقعه الجغرافي المميز
يجعله القلب النابض للعالم، سياسيا واقتصاديا، ويدين أكثرية أهله بدين واحد وهو
الإسلام. ولأجل أن يستمر التحكم بهذه المنطقة إما بالترغيب أو الترهيب، زُرِع كيان
الاحتلال فيه، واستمرت المحاولات لتطبيع وجود هذا الكيان. ولأجل ذلك بالذات ظهر مصطلح
الشرق الأوسط، الذي ابتُكر لنقبل بوجود كيان الاحتلال في جسد الكتلة العربية باعتباره
متماهيا مع هذا الجسد الكبير، لا باعتباره نشازا ودخيلا عليه. فهو كيان لا يتحدث
العربية وسط عالم يتحدث بهذه اللغة، وأناس الكيان ليسوا من أصول عربية أو من
الشعوب التي بنت شرعيتها بالبقاء في تلك المنطقة لفترة طويلة من الزمن وبَنَتْ ما
بنته طوبا فوق طوب، وحجرا فوق حجر؛ بل جاؤوا من شتى بقاع العالم واستوطنوا منازل أناس
آخرين، واستولوا على أملاك غيرهم، فكيف يكون لمثل هؤلاء شرعية في وجودهم؟ أو شرعية
لقبولهم؟.
فكي يستطيع المُسَيْطِرُ الإبقاءَ على سيطرته على ضحيَّتِه، فإن ذلك مرتبط
تماما بالسيطرة على منطقِ الضحيةِ وطريقةِ تفكيرها التي تجعلها أقل تسببا في
المشكلات -كخطوة أولى- ثُمَّ تُصبِح لا ضحيةً للجلادِ فحسب، بل شريكا وفيًّا لَهُ لا
تستطيع التفكيرَ خارجَ الإطارِ الذي وضعه الجلاد لها، وتظنُّ بأن العالم منحصر في
تلك الزاوية التي رسمها الجلادُ وحددها لها -وهي المرحلة الأخيرة- وهي التطبيع
وتقبُّلُ الكيان الدخيل باعتباره شرعيا ووجوده وجودا منطقيا.
لم يوجد أيُّ استعمارٍ -مباشر أو غير مباشر- دون الوجود والحضور الثقافي
له. فاستعمار الأرض هو آخر خطوة يخطوها المُستعمِر، كما أنها خطوة باهضة جدا جدا.
لكن استعمارَ العقولِ والأيديولوجيا أكثر فاعليَّةً ونجاعَةً. لذلك كان من المهم
تفكيك النص القرآني باعتباره المُقَدَّسَ الأولَ في هذه البقعة الاستراتيجية
والمليئة بالموارد. فتفكيك القرآن ونقده باستعمال أدوات لغوية مشوهة تفتقر
إلى المصادقية والقوة، إضافة إلى المتحدثين في التفسير اللغوي والذين لا يجيدون القراءة
الفصيحة السليمة للقرآن حتَّى؛ لا علاقة لتيارهم بكون الإسلام دينا صحيحا أو غير
صحيح.
فالقوى الإمبريالية لا تكترث بماهية الدين الذي تعتنقه الشعوب المُسْتَعْمَرَة،
بل بالكيفية التي يستفيدون عبرها من الدين السائد في تلك المنطقة. فلو كان الدين
السائد في البقعة الجغرافية الأكثر والأغزر مواردا هو دين "الشنبلوطية"،
لحللوا النصوص المقدسة لهذا الدين باعتبارها أداةً في التحكم بالشعوب المُسْتَعْمَرَة،
وليست أداةً لتفكيك الدين "الشنبلوطي" ذاتِهِ، وقد استعملتُ هذا المصطلح
كي لا أضرب مثلا بدين قائم بذاته في بقعتنا الجغرافية المتنوعة الأديان والنحل،
لأنني وكما ذكرت لا يرتبط الأمر بماهية الدين، بل بالكيفية التي يُستفاد عبرها
منه.
لذلك يغدو التفسير
المغلوط والمتعمد لأسماء بعض الأماكن المقدسة والمرتبطة في وعي الشعوب بأحداث
تاريخية ودينية لها دلالاتها وخصوصيتها، شيئا مهما وأداة مفصلية لتخدير تلك
الشعوب. فأن تقول بأن "فلسطين" هي منطقة جغرافية في مكان غير المكان
الذي نعرفه، أو الأقصى ليس سوى مسجد في بقعة جغرافية ما ومعنى الكلمة "البيت
البعيد"، أو أن بيت المقدس هو اسم منطقة ما وليس اسما للأمكنة المعهودة
لدينا؛ فهو تحريف واضح ومتعمد للحقائق بما يخدم الاحتلال. وذلك لأنك إن نزعت الصفة
الحقيقية لهذه الأمكنة، فإن غياب تلك الصفات يعني بالضرورة إثبات الصفات النقيضة؛
وهي أن فلسطين ليست إلا أرضا لبني إسرائيل!. ثم إن هذا المشروع يتسق اتساقا عجيبا
مع اتفاقات أبراهام، ومن العجيب أن الشخصيات التي تتحدث بمثل هذا تكون منسقة
وداعمة لما يروّج لها حديثا ب"الديانة الإبراهيمية". وبمحض المصادفة،
تجد لتلك الشخصيات وجودا واعتبارا -إن لم يصل الأمر إلى حد التمويل- لحماة اتفاقيات
أبراهام والمدافعين عنها. هكذا يجتلى بأن اللعب باللغة
ليس لعبا بريئا، بل هو لعب بالأفكار، بالوعي، بالعقول. ومتى قبلنا مثل هذه الألعاب
السخيفة، فكأننا نقبل أن نقول لكل "إيلي كوهين" بأنه ليس جاسوسا صهيونيا،
بل هو عربي مسكين اسمه "كامل أمين ثابت"!. وبالتالي لا يصبح
للإنسان قيمة، ولا للوطن، ولا للذات نفسها، لأن كل شيء نسبي،
واللغة ذاتها تصبح لا أداة للتواصل والفهم فحسب، بل أداة للسيطرة والهيمنة وفقدان
الثوابت واضمحلال الهوية.
*المقالة المنشورة في جريدة عمان بعنوان "اللعب باللغة واكتساح الوعي"، ولكنني آثرت أن أغير العنوان إلى العنوان الحالي.
*الإضافات المثبتة هنا جاءت بعد نشري للمقالة في الجريدة، وليس قبل ذلك.
تعليقات
إرسال تعليق