التشييء


التشييء


يشعر الكثير منا بشعور أقرب ما يمكن توصيفه بأنه اغتراب ، فنحن نعيش حول أناس كثر ، وهم حولنا كذلك. ولأن الحياة المشتركة تقتضي التعامل فيما بيننا ، فإننا نتعامل معهم وفق ما نشعر به من رضى أو نقيضه. أما من يذهب إلى أن الإنسان يتعامل حسب المنطق والعقل ، فهذا مما يكذبه الواقع وتشهد على نقيضه الحياة اليومية فنحن نعامل فلان بتقدير لشعورنا الداخلي الذي يصفه البعض بالشعور الموجب (حب ، دهشة ، إعجاب ، تقدير ... إلخ) ونعامل  آخر بنقص في التقدير لشيء كامن في فلان وهو ما يعرف بالشعور السالب (تسلطه ، عجرفته ، تعامله مع الناس..إلخ). ولا نشعر تجاه أحدهما وفق ما يمتلكه من معرفة أو وجاهة أو سلطة ، بل وفق المعايير التي صنفناها داخليا بأنها فضائل ، أو المعايير الموازية التي صنفناها على أنها رذائل.

ولأن أحدنا يمر بلحظات التماع الوعي -التي قد تكون خاطفة وقد تستمر لفترة- فإنه يشعر بالاغتراب نتتيجة الانفصام بين ما يواجهه في الواقع ، والمُثُل التي يحملها بداخله وتصنيفاتها التي تم ذكرها (فضائل – رذائل) وهذه المثل متغيرة متقلبة ، تقلّبَ النفس البشرية ذاتها ؛ فما نراه فضيلة اليوم ، يحتمل أن يصبح رذيلة بعد مدة من الزمن نتيجة التجربة الحياتية قبل المعرفة المجردة ، والعكس صحيح.

مواقع التواصل الاجتماعي ، والشبكة المعلوماتية الهائلة ؛ نسفتا ما سُمّيَ يوما بالأخلاق العامة -ما اشترك الناس بطوائفهم ومذاهبهم ودياناتهم المختلفة في تسميته بالأخلاق العامة المشتركة- في التعامل بين البشر. فقبل عقدين من الزمان ، كان التعامل بين شخصين يتم وفق المعايير الإنسانية الدُّنيا ، ثم تطور الأمر بتوغل الرأسمالية لنصبح أشياءا وأرقاما في مصفوفة عقلية مبرمجة. فيصبح من غير المعقول أن يشارك المثقف حالته الشعورية الإنسانية (حب  ، كره ، تباين في المواقف ، رغبة جسدية ، رغبة روحية ...إلخ) ومن غير المعقول -مثلا- أن يمتلك مزارع بسيط سيارة بورش ، أو أن يقود وزير سيارة كورولا. فوفق المصفوفة العقلية الحالية ، نحن نمثل أرقاما ونتائج متوقعة يقابلها المجتمع والناس بانفصام إن لم تأت وفق تصوراتهم العقلية الحالية وتوقعاتهم المسبقة.

أسهمت مواقع التواصل الاجتماعي بتأجيج هذه الحال الجديدة في التاريخ البشري ولذلك لأننا أصبحنا نشارك تفاصيل حياتنا في هذه المواقع. ومن يعش تجربة مواقع التواصل هذه ، سيتأثر لا محالة بالوضع الراهن سواء بوعي أو بدون وعي منه. فنحن لا نتقبل بل ونُصدَم بأن يمر المؤثر الذي يحاول نشر السعادة ويتحدث عنها طويلا -مثلا- نصدم إن هو شارَكَنا لحظة من اللحظات الإنسانية الطبيعية "الحزن" ، ويقابله من يتابعونه برد فعل يتمثَّل بعدم تقبل/تفهّم ما يمر به ، يصاحبه استنكار ودهشة وذلك لاعتيادهم على نمط محدد من حياته التي شاركها ، وتم تأطيره في ذلك النمط الذي لا يقبلون أن يخرج عن أُطُرِهِ. ففي المصفوفة العقلية اللاواعية تم تصنيفه مسبقا على أنه يجب أن يكون سعيدا طوال الوقت! .. وهلم جرا.

التشييء ، أن نعامل الإنسان كشيء أي كمادة. وذلك وفق معاييرنا الداخلية (ما يملك ، مظهره ، عمله ..إلخ) ، ووفق ما يُظهره لنا.

ولربما كان التشييء هو التأطير أساسا ، فيُتوقع من المثقف -مثلا- أن يكون رزينا ، هادئا ، حليما ، لا يشعر بالحب أو البغض ، لا يشتم.. بالمجمل ؛ نتوقع منه أن لا يكون إنسانا طبيعيا كباقي البشر!. فنؤطره لاشعوريا ضمن إطار لا نتقبل خروجه عنه. وذلك نتيجة لطبيعة المثقف الناقدة التي تستدعي تركيزه على النواقص ورغبته في أن تكتمل تلك النواقص لسعادة المجتمع أولا ولسعادة الناس عامة. حتى وإن لم يطرح ذلك المثقف حلولا لتلك النواقص ، فإنه يقوم بتسليط الضوء عليها لتصبح قضية مشتركة نتعاون -كمجتمع- في إيجاد حلول لها.

التشييء والسرعة في كل شيء ، من أبرز سمات الرأسمالية. فعلى سبيل المثال ، نحن نفضل حلا سريعا بين أيدينا ، حتى وإن علمنا أن ذلك الحل ستترتب عليه مشكلات بعضها متوقعة والبعض الآخر من المشكلات الحادثة. وفي المقابل ، نعلم أننا إن تأنينا في البحث والاستقصاء ، سنجد الحل الذي يمكن بعده أن نركن إلى راحة طويلة دون أن نتوقع مشكلات جديدة منبثقة منه. وأبرز مثال على ما أطرحه هنا ، هو مشكلة الباحثين عن عمل. وهذا الموضوع يتطلب مساحة أرحب وجهدا أكبر ولا مجال للتطرق إليه حاليا. لكنني سأضع خطوطا عامة لنعي هذه المشكلة ؛ فنحن حين نوظف عاملا ، فإننا يجب أن ندرك المنظومة المتغيرة لتوظيف ذلك العامل (راتب شهري ، تأمينات اجتماعية "للتقاعد" ، تأمين صحي..إلخ). وليس هذا مكان الحديث عن الأمر.

فلنعد لمسألة التشييء. ففي هذه الحال ، نحن نبحث عن السرعة كما ذكرت ، والسرعة هنا مقصود بها سرعة جني الفائدة والمنفعة والثمار. فنحن نتوقع أن نحصد الشيء قبل زراعته حتى! ، فنتوقع المحصول الوفير الذي ستدره علينا هذه الشجرة ونخطط لأن نجني حصادها في وقت نحدده في خططنا ، ونشتري جميع الأسمدة والمحاليل الكيميائية التي تسرع نمو تلك الشجرة وتزيد إنتاجها ، وهذا مثال يمكن تعميمه على أمثلة أخرى في حقول مختلفة.

هنا يتغلغل شعور الغربة والغرابة عن المجتمع عند من تحصل لديه التماعة الوعي. فهو يقارن بين ما ينبغي أن يكون ، وما هو كائن فعلا. فهو يتوقع أن يكون الناس بريئين ذوي قلوب صافية -مثلا- ولكنه يمر بتجربة (الكذب ، الخيانة ، الخذلان ، الحسد ، البغض ، الغيرة ، الحقد ، الاستغلال... إلخ) ، فيصاب بصدمة تجعله ينسحب من الحياة رغم وجوده الفيزيائي فيها وما يحتمّه هذا الوجود من تعامل مع الناس (فهو يحتاج لمن يصنع له لأكل ، لمن يصلح سيارته ، لمن يعالجه ، لمن يعلمه ، لمن يسمح له بفعل شيء ما ، لمن يغسل ويكوي ملابسه..والأمثلة عديدة) ولكنه ينسحب من الحياة العامة ، فيَصِمُهُ الناس بأنه غريب عنهم متكبر عليهم! ، رغم أنه لم يختر هذه الغربة وهذا الانعزال/الاعتزال. ولأن أحد أهم مصادر الوعي هي القراءة ، فقد اعتاد الناس على النظر إلى القارئ على أنه كائن مختلف وبعبارة أدق ، على أنه شخص مجنون فقد عقله وسلبته القراءة التفكير السليم!. والعقل والتفكير السليم هنا ، لا يقصد به الناس ذلك التفكير الراجح وفق المنطق السليم المتجرد ؛ بل إن المقصود هو أن يكون ضمن نسق التفكير المجتمعي -أي أن يكون تفكيره وطريقة حياته نسخة عن بقية أفراد المجتمع-. فهم يتوقعون منه أن يفعل كل ما فعلوه بعقل لاواعٍ ، وأن يعيش حياته البطولية (التي تتحقق بأن يبني منزلا ، يتزوج وينجب الأبناء ، يشتري سيارة جديدة...إلخ) ولا يتم النظر أبدا إلى المعاني السامية التي يتطلع إلى تحقيقها. فهو لا يكترث بالزواج -مثلا- لأنه يرى بأن اهتمامه يجب أن ينصب أولا على تثقيف أهله ومجتمعه بضرورة الفحص الطبي ، أو لأنه ببساطة يبحث عن الإنسان الذي يكون على استعداد لأن يعيش معه ما تبقى من حياته ، لحظة بلحظة وثانية بثانية. فالعقل الجمعي ينظر إلى الزواج -مثلا وليس حصرا- على أنه فضيلة يجب أن تتحقق بأسرع ما يمكن ، دون النظر إلى أن من يتزوجه الإنسان سيضطر إلى أن يعيش معه ، بل إلى أن يصبح ظلّه إنسان آخر من لحم ودم وليس انعكاسا لجسده على الحائط. وبما أننا ضربنا الزواج مثلا على العقل الجمعي ، فإننا سنضرب به المثل مجددا ولكن على المنفعة. فالزواج من الأفعال النفعية أيضا ، فمن يتزوج فهو يبحث عن منافع متعددة من ذلك الزواج وهي تندرج تحت النفعية المادية (جنس ، أبناء ، وجاهة ، جمال.. إلخ) ، وهذا نتيجة التشييء بطبيعة الحال. وعلى العموم ، فإن التشييء نفعيٌّ مادِّيٌ بحت ، نَزَع الروح من أفعالنا وحياتنا التي كان يمكن لها أن تكون طبيعية. والحياة الطبيعية في نظر الفرد الواعي ، مختلفة عن تلك التي لدى الفرد ذو التفكير/العقل الجمعي كما أسلفنا الذكر ، ولكنني أقصد بالحياة الطبيعية هنا ، الحياة التي نقدّم فيها المُثُل الروحية السامية قبل المنفعة المرجوة. ومجمل القول ، أن الإنسان السعيد من تخلص من أسر التشييء ، وعاد للحالة البدئية الطبيعية ، وكي لا يطول المقال ؛ فإنني تعمدت عدم تفنيد الآراء المعارضة المتوقعة لما كتبت ، وأترك للقارئ حرية إبداء الرأي وحرية رفض ما ذكرت ، كما أترك له استحسانه وتأييده أيضا.

فلنعد لحالتنا الإنسانية .. فلننعتق من التشييء!.


@eagle_eyes_

19:24 PM
18/10/2019

تعليقات

المشاركات الشائعة