بذورُ الشَّجَرَةِ السَّامَّةِ | 26 يونيو 2025

 



لم يمض يوم مذ خُلِق الإنسان إلا وكان فيه شيءٌ جديد، معرفةٌجديدة، اقترابٌ جديد. حتى جاء اختراع الآلة الطابعة باعتباره الفتح الأكبر وكُرة الثلج الحسنة التي جعلت التطورات المعرفية في شتى العلوم تتسارع وتتوالى إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه من طفرة في التقدم والتطور البشري. هذه الطفرة الهائلة طالت جميع العلوم دون استثناء، عدا منطقةً ظلَّت عصية على الحسم العلمي، وظل العلم يعالجها ويقاربها فيصيب تارة ويخطئ تارات كثيرة، وذلك لديناميكيتها المستمرة وحركتها الدائمة التي لا تتوقف؛ وهي المنطقة الشائكة لفهم النفس الإنسانية. فقد ظل حقل علم النفس بأشواكه الحادة وحقله الصعب الذي يشبه حقل الألغام، عصيا على الاختزال والحصار، وظل التأسيس فيه مستمرا وقائما، فهو بناء لم يكتمل رغم السنوات التي مرت والأبحاث التي نشرت، والعلماء الذين أفنوا حياتهم فيه.

تغريني عدة فنونٍ لفهمها والتعمُّقِ فيها واكتساب مزيد من المعرفة عنها، وكلما تعمّقتُ؛ وجدتني أشد ظمأً للمزيد منها، وعلم النفس أحد هذه الفنون الخلّاقة دائمة التطور والنمو. يكتسب المرء بعد فترة من تجربته القرائية الناقدة مهارة جديدة، وهي المقاربات التي يشاهدها في واقعه والتمثّلات التي تبدأ بالظهور مرة بعد أخرى؛ فكأنما يرى التجسيد الآنِيَّ للآية الكريمة " فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ"، حيث ترتفع الحُجُب وتغدو الأشياء واضحة جليّة مهما أُلبِسَت من أقنعة ووجوه. كنا في حوار عميق وصادق صديقي وأنا، عن علم النفس، الطبيعة البشرية، الجوانب المظلمة والخفية للنفس البشرية، وكيف يستعمل البعض الشر بوعي أو بغير وعي منهم عبر علم النفس. فانقدحت في  ذهني شرارةٌ ما، وانكشف لي شيء خشيت أنني سُبِقت إليه، وانتهى الأمر بفرحة الاكتشاف ولذته. فقدابتكرت مصطلحا جديدا لم أجد له أي استعمال أو نحت من قِبَلِ أي مختص أو أديب، وسميّته "بذور الشجرة السامة". فما هي الشجرة السامة؟ وما بذورها؟ وكيف يتبدى الشر في بعض المواقف والأحداث التي تبدو عفوية وطبيعية؟.

يتفاعل الناس مع بعضهم وفق مسؤوليات وحاجات معينة، وتحدد تلك المسؤوليات والحاجات طريقة التعامل وسُبُلَها والخبايا التي تندسُّ في شقوق النفس البشرية، فإما أن يدركها صاحبها وإما أن تتمدد تلك الشقوق حتى يتصدع المرء وتتبدى للجميع هشاشة موقفه ومنطلقاته، حتى ليتمثّلَ المرء بشطرِ بيتِ زُهير بن أبي سُلمى "وإن خالها تَخفى على الناسِ تُعلَمِ"لا يستطيع الإنسان أن يقصر تعامله على من يعرفه ويروق له فحسب، فهو يعتمد على الناس كاعتماده على النباتات في غذائه، فبعض الأغذية لا بُدَّ من تناولها حتى وإن لم تعجبنا أو تَلذُّ لنا، وهكذا البشر. فبعض الناس في هذه الحياة أناس من المجموعة الأساسية التي لها حقوق ومكانة ومقام يمنحها الحق والقدرة في التأثير علينا ومناقشتنا ومحاكمتنا أخلاقيا أو قِيَميًّا؛ وهم الدائرة الأقرب من العائلة والأصدقاءبينما تغدو المجموعات الثانوية، من زملاء وأناس نتعامل معهم لمرات محدودة شيئا خارج نطاق اختيارنا وإنما تضعنا وتضعهم الحياة في ذات الطريق الذي يجب أن نخطوه سويا.

تنمو العلاقات الإنسانية بالتغذية المستمرة من لقاءات ومعرفة وتصاحُبٍ وحديث، وقد تصبح حديقةً غنَّاء وارفة الظلال، أو حقلا مليئا بالأشواك الظاهرة والخفية. فالظاهرة أمرها سهلٌ ويسير، ولكنَّ أُمّ المشكلات تكمن في تلك الخَفِيَّة المتوارية عن العيون. كيف تنمو العداوات وكيف تذبل الروابي النَّضِرَة إذن؟ هناك خلل ما طرأ في العلاقة وجعلها تحذو هذا الحذو، فما الخلل؟. بينما يفسل المرء الفسيلة برغبة وعن قصد ونيّة، في موضعٍ ما وفسيلةً من نوعٍ ما، تتميز بعض الأشجار بأنك تستطيع أن تنثر بذورها في المزرعة دون زراعة أو غرس، ولا تشعر إلا وقد نمت تلك الأشجار وناولتك ثمارها، وهكذا العلاقات الإنسانية أيضا. فالكلمات التي نقولها للآخرين أو عن الآخرين تمثّل بذورا تَعِدُ بشجرةٍ قادمة، وبينما يغرس المرء بذرةً خيِّرة ككلمةٍ طيبةٍ في نفسِ طفلٍ ليكبُرَ وهو أقرب إلى الخير، أو لصديقٍ أو محتاجٍلتلك الكلمة الطيبة ليغدو أفضل حالا وأقل ألما أو مشكلةً أو مأزقا؛ يعمد البعض إلى نثر البذور السامة في الآخرين، أو في الآخرين عن آخرين غيرهم!. 

تمثّل الغيبة والنميمة وحديث السوء عن شخصٍ ما، بذرةً واضحةَ المعالم لشجرة تعد بانقطاع علاقة، أو انفصامها في التوِّ واللحظة، أو في الغد القريب المنتظر. أما البذور الخفية، فهي تلك التي تلبس ثيابا أنيقة وتبدو حسنةً جميلةً بل وخَيِّرَةً أحيانا!. ثم ما يلبث أن تنمو في تلك الدهماء، فلا ندري كيف نمت واستطالت، أو متى ارتوت وطالت. إن الكلمات التي تتخلل ثنيّات الكلام، كلمات تترسّخ وتثبُت في موضع ما في نفوس سامعيها. ويَستعمل البعض تلك الكلمات بوعي كامل فنسميهم أُناسا "سَامِّين"، لكن الخطر يكمن من الآخرين الذين تبدو عليهم مظاهر البراءة والوداعة في كلامهم، وهم يدسون بذور الشجرة السامة في أرض طيبة النشر. ومثال البذور السامة، أن يجمع مجموعة من الأصدقاء أو المعارف جامع مشترك وكُلّهم على القدر نفسه من المكانة والتأثير في المجموعة، ففي مجموعة تضم -على سبيل المثال- جون، مايكل وفريدريك؛ يقول جون لمايكل متحدثا عن فريدريك "صحيح أنه صديق جيد، لكنه لا يلتزم بوعوده للأسف، أتمنى لو أستطيع تغييره لأننا نحبه حقا، هل علمتَ أنه خسر شريكه التجاري لأنه لم يوفِ بالتزاماته المالية تجاه الشركة والمشكلة أنه لا يصارحني بهذه الحقيقة لأساعده يعزُُّ عليَّ حاله، ليتني أستطيع مساعدته فحسب". تبدو تلك العبارة لطيفة تمثل ألم صديق على حال صديقه، ولكنها في الحقيقة تخفي بذرة سامة تعد بشجرة مؤجلة للغد.

ينكشف جون أمام فريدريك، ويكتشف فريدريك أن جون لم يكن صديقه أساسا؛ بل كانت تختبئ خلف تلك الأقنعة مصالح ونوايا أخرى، وهنا يكتشف فريدريك أن بذرةَ الأمس صارت شجرة. فحين يذهب فريدريك إلى الصديق المشترك "مايكل" ليشكو من جون ويطلب المساعدة في تحسين علاقتهما؛ يكتشف أن مايكل منحاز تمام الانحياز إلى جون وروايته للمسألة والحدث. فتلك العبارة الأولى رسّخت في مايكل -حتى وإن كان في عقله اللاواعي- عدة صفات سيئة عن فريدريك رغم أنها لم تظهر إلى السطح إلا حين حدث الخصام بين الباذر والمبذور عنه. فالكذب وانعدام الثقة والمسؤولية كلها بذور غرستها يدٌ ما في ظلام النفس وها هي تخرج للوعي شجرة مكتملة النمو!.

خشيت أن يكون استعمال الأسماء العربية في المثال ضربا من ضروب البذور السامة غير المقصودة التي قد يتلقفها شخص ما لتشابه الأسماء أو تشابه المواقف. ولكن هذا المثال يعيدنا إلى الواقع الصعب في التعامل مع علم النفس وتمثلاته في أفعال المرء وأقواله فضلا عن تفكيره وما يعتمل في دماغه. ففي فهم الآخر، تغدو للكلمة معان كثيرة ولا نهائية من الاحتمالات، وفي حين يبدو أن بعض تلك الكلمات واضحة جلية؛ تختبئ الكلمات السامة في شقوق الحديث متوفزة ومتأهبة للخروج عند أدنى استعداء وأول صفارة إنذار. ففي حين أن الكتب والبحوث هي مادة المعرفة في شتى المعارف والعلوم؛ يمثل التعامل مع البشر ومراقبة تصرفاتهم وأقوالهم وأفعالهم ونتائج ذلك كله وتجسيداته، النتيجة المباشرة للمراقبة والمشاهدة والتجربة في هذا الحقل الشائك. أما عن علاج كل هذا، فالصدق والصراحة هما الحل الناجع والعلاج الحقيقي. فما يدعو المرء إلى أخذالكلام على عواهنه ليس إلا الكسل المعرفي وبطالة الذهن والروح الذي يدفعه لأن يتناول أقرب ما تصل إليه يده من "الرَّف" القريب، دون تفحّص أو تمحيص لما يتناوله أو يصل إليه. ثم ما فائدة العلاقات الإنسانية كلها إن لم نملك الشجاعة على السؤال؟ فإذا كان السؤال يَمسُّ أعظم ما في الحياة "الإله" كما في "الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ"، فهل يخشى أحدنا أن يتثبت ويسأل من يكترث ويهتم لأمره من عائلة أو صديق أو حبيب؟، وهل سيتنبه إلى البذور السامة في حينها؛ أم أنه سيعمي عينيه عن الفيل الذي في الغرفة؟

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة