كنز الأدب العربي - ديوان الحماسة لأبي تمَّام حبيب بن أوس الطائي
ظللت ردحا من الزمن أبحث عن الحماسة ولم أوفق إلى الحصول عليه ، وكلما أردت شراءه عرض عارض منعني عن اقتنائه ؛ حتى جاء معرض الكتاب المنصرم ، وفيه كانت المفاجأة! وهي أن دار كلمة ممن طبع الكتاب وأن الدار كذلك لديها تخفيض كبير في الأسعار فابتعت الكتاب بلا تردد.
ولحسن طالعي ، فقد اكتشفت في ختام قراءتي للكتاب أن محققه قدمه لنيل درجة الدكتوراة في اللغة العربية -فقد اعتدت تأخير قراءة المقدمة كي لا تؤثر في قراءتي للكتاب- ولهذا كان تخريج الكتاب بصورته العلمية المحكمة ، إضافة إلى أنه خلا من الشروحات الطوال ومن الهوامش الزائدة ، إلا ما اقتضت الحاجة تضمينه في الهامش لإيضاح مستبهم ، أو لتوثيق المكتوب بالمراجع.
وإذ يفتح القارئ الصفحة الأولى من الكتاب ، فإنه يستشعر أرواح الأسلاف وهي تزأر خارجة من الكتاب محاطة بأصوات الأسنّة المتصادمة وعويل الثكالى ونسورٍ تتابع الحرب من عَلٍ كي لا تبقَرَ ذئاب البادية بطنَ رجلٍ ظنَّ أن الصحراء المكفهرة والليل إذا جَنَّ ، قد أسبلا عليه أمانا أو مخبأً.
هنا تتزاحم العظمة القولية -الشعر- بالعظمة الفعلية -الشعراء-، فيتضاد عذب الكلام مع مستهجنه ، وحسن الثناء مع قبح المذمة والهجاء ؛ وفي كل لون من ألوان الكتاب ، يجد القارئ طرفة خفيفة ، أو ملحة ظريفة ، أو استنهاضا يُخرج محاسن النفس ويصقلها ويهذبها. ولإن كنت ممن يقرأ الكتاب وفي يده قلم يخط به أسفل ما يستحسنه أو يميل إليه ؛ فإنني أدعوك لأن ترمي قلمك ، وتتهيأ قبل المثول أمام هذه الصفحات البهية ، فإن في كل صفحة من الحماسة ما يجعل المرء يصرخ بأعلى صوته "الله! ، الله!!" وهو ممسسك برأسه ، وقد جحظت عيناه من الحكمة العالية واللغة المتعالية ، وهو في كل أحواله -ما دام يطالع الكتاب وينعم النظر فيه- مأخوذ ببديع العبارة ، وحسن الصنعة ، وملاءمة المقال للحال -بل يزيد-. ولإن كان المرء ممن لا يميلون للشعر العمودي وقرر يوما أن يقرأ شيئا منه ، فإن هذا السِّفر الجليل أولى من غيره بالمطالعة وإنعام النظر وإطالة الفكر فيه ، لما فيه من استنهاض همَّة ، وتهذيب نفس ، وصقلٍ للروح ، وغسل لملكات الإنسان العلوية وقرائنها الدنيوية على السواء ، من أي درن يصيبها أو كدر يشوبها.
أنا المحلق بهجة وغبطة بعد قراءتي للديوان ، لا يسعني إلا أن أرفعه فوق رأسي ، مُقَبِّلا إياه ، صادحا "الله الله الله!".
ختاما أقتبس لكم من دراسة الدكتوراة لإبراهيم بن مسعود الفيفي ما يبين مقام الحماسة بين كتب الأدب ، وهو مقام معروف مشهور ، ولكنني أورده هنا تأكيدا للعارف ، وترغيبا للمريد المتعطش إلى المعارف.
( إن للشعر دوراً كبيرا في إعطاء صورة واضحة المعالم والقسمات عن حياة العرب والمسلمين، ومدى ما وصلوا إليه من مستوى فكري وثقافي عبر العصور، هذا إلى جانب ما كان للشعر العربي من أهمية كبرى في الحفاظ على لغة العرب وإحيائها؛ ولذلك نشط الرواة والعلماء في جمعه وتدوينه، فجمعت الدواوين وصنفت المختارات الشعرية، ومن بينها حماسة أبي تمام، وهي أكثرها شيوعاً وشهرة؛ وذلك لأنها ألفت على نحو لم نعهده في المختارات من قبل؛ إذ إن الشعر صنف فيها بحسب المعاني والأغراض، إلى جانب أنها تحوي مقطوعات قصيرة لكثير من الشعراء المقلين والمغمورين، كما ان أبا تمام حرص على أن يختار للشعراء ابتداء من الجاهلية إلى عصره، وكثير من أشعار الحماسة يعد من الشواهد المعتمدة في العربية لغتها ونحوها وبلاغتها؛ ولذلك كله احتلت على الحماسة منزلة كبيرة لدى العلماء والأدباء ونالت من العناية ما لم تنله مجموعة أدبية أخرى، وقد ألف العديد من الأدباء حماسات على غرار حماسة أبي تمام التي قال عنها ابن خلكان: (( وله كتاب الحماسة التي دلت على غزارة فضله، وإتقان معرفته بحسن الاختيار )) ، كما دفع الإعجاب ببعضهم إلى القول: (( بأن أبا تمام في اختياره الحماسة أشعر منه في شعره)).
ومدار الاختيار عند أبي تمام الجودة والاستحسان، غير منبثق من مذهبه الشعري الذي يعنى أكثر ما يعنى بالغوص على المعاني، وتصيد ألوان البديع ، وضروب الاستعارات، بل تنكب هذا الطريق فاختار من الشعر ما كان أقرب إلى العفوية والصادق العاطفي، ويعلل لذلك المرزوقي فيقول: "وأما تعجبك من أبي تمام في اختيار هذا المجموع وخروجه عن ميدان شعره ومفارقته ما يهواه لنفسه. فالقول فيه أن أبا تمام كان يختار ما يختار لجودته لا غير ، ويقول ما يقول من الشعر بشهوته، والفرق بين ما يشتهي وبين ما يستجاد ظاهر بدلالة أن العارف بالبزِّ قد يشتهي لبس مالا يستجيده، ويستجيد مالا يشتهي لبسه، وعلى ذلك حال جميع أغراض الدنيا مع العقلاء العارفين بها في الاستجادة والاشتهاء."
لم يكن هم أبي تمام أن يبدو راوية أو جامعاً للشعر، وإنما كان يعايش الشعراء في شعرهم، ويديم النظر، فيختار من ذلك ما يقع عليه ذوقه، موزعاً إياه على أبواب جعلها وعاء للمعاني والأغراض.
ذكر المرزباني عن ابن العباس الرومي قوله: "حدثني مثقال قال: دخلت على أبي تمام الطائي، وقد عمل شعراً لم أسمع أحسن منه ، وفي الأبيات بيت واحد ليس كسائرها ، فعلم أني قد وقفت على البيت ، فقلت: لو أسقطت هذا البيت.
فضحك، وقال: أتراك أعلم بهذا مني؟ ، وإنما مِثلُ هذا مِثلَ رجل له بنوان جماعة كلهم أديب جميل مقدم، ومنهم واحد قبيح متخلف فهو يعرف أمره، ويرى مكانه، ولا يشتهي أن يموت، ولهذه العلة وقع مثل هذا في أشعار الناس".
ورجل هذا موقفه من شعره من المستبعد أن يتعدى على شعر غيره بالتصرف والتغيير، وهكذا تبقى لشاعر الحماسة قيمته والثقة به، ألا ترى إلى قول الزمخشري: "وهو إن كان محدثاً لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية، فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه: ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة ، فيقنعون بذلك لوثوقهم بروايته وإتقانه". )
علاءالدين الدغيشي
الإثنين | 16-3-2020
تعليقات
إرسال تعليق