ستيف جوبز - سيرة ذاتية
مررت بفترة ركود نفسي وفقدان للشغف -تجاه العمل خصوصا- في فترة اتسمت بالتذبذب والضغط المتواصل لظروف كثيرة.
فكرت كثيرا فيما يمكن له أن ينتشلني من هذا التيه والذبول ، أخذت كثيرا من كتبي وشرعت بتصفحها ، ولكني لم أكمل أي كتاب من تلك التي أخذت. كنت أعلم أنني أحتاج إلى شيء يتعلق بالعمل الدؤوب والشغف المتقد.. وهما إحدى سمات العبقري ستيف جوبز.
كانت رؤية السيرة الذاتية لهذا العبقري الخالد تثير فيَّ الرهبة والخوف من قراءتها ، وكلما أمسكت الكتاب رغبة في قراءته ، كان هنالك ما يصدني عنه! ؛ إلى أن قرأت سيرة العبقري الآخر إسحاق نيوتن ، حينها عقدت العزم على أن أشرع بقراءة هذه السيرة بعقيدة راسخة بأن قراءتها فيها دواء ما أعاني منه. ولأنني اعتدت -في بعض الكتب خصوصا- على أن لا أقرأ الكتاب رغما عني ، وإنما أتيح للكتاب أن يبعث بندائه لأقوم بقراءته ؛ فقد أنصتُّ جيدا لهذا النداء الصاخب الوقور وهو يدعوني لأن أقرأ الكتاب الذي ابتعته في أواخر شهر سبتمبر من العام 2016.
يبدأ والتر إيزاكسون بسرد كيف أن جوبز طلب منه أن يقوم بكتابة هذه السيرة ، وحينذاك تساءل إيزاكسون الذي كان قد كتب سيرتين ذاتيتين عن أبراهام لينكولن والعالم الفيزيائي الشهير آينشتاين ، تساءل عما يجعل أحد أبرز المدراء التنفيذين ومؤسسي إحدى الشركات الكبرى يظن نفسه عظيما لتُكتَب عنه سيرة كتلك التي كُتِبت عن لنكولن أو آينشتاين!. ولكن الأحداث التي واكبت الطلب المتكرر -من زوجة ستيف بعد ذلك ، بعد إصابته بالسرطان- في كتابة السيرة الذاتية عنه بتجرد تام وبنظرة حيادية ، كشفت لنا شخصية خالدة سيظل التاريخ مدينا لها بأفضال كثيرة.
وككل العظماء ؛ ليس جوبز سوى إنسان جمع صفات متناقضة تجعل المرء حائرا في تلك الشخصية الفذة التي جمعت بين الدهاء والحُمق في آن -وفق وصف إيزاكسون في خاتمة الكتاب- فهو مزيج بين الكمال في صورته النهائية وبين العجرفة والأفعال غير المفهومة كذلك.
يجد القارئ في هذا الكتاب سيرة رصينة كتبها مؤلفها بكثير من الحصافة والدقة ، فتجده يسأل كل الأطراف -حتى وإن كان بينها نزاع وخصام- عن مواقف معينة ؛ تحريا للصدق والدقة ، وتجده يمحّص قولا هنا وحادثة هناك كي يوصل لنا الصورة الأشمل والأصدق. وفي المجمل فإنها أحد أكثر الأعمال المكتوبة صدقا ورصانة وأصالة. فأنت لا تقرأ عن ستيف وكأنه إله! ، بل كما هو بشري بإنجازاته الطلائعية وإخفاقاته البشرية. وككل إنسان ؛ تجده محبوبا ومكروها ، سعيدا وحزينا ، طيبا وقاسيا ، قويا وضعيفا.. ولكن نفسا كتلك التي ضمها جسد ستيف ؛ لم تكن لتمر في درب التاريخ وتتركه دون أثر.
سيجد القارئ في هذا الكتاب حياة كاملة ، حياة متقلبة واقعية وصادقة ، وسيتعجب من كثير من المعلومات كبراءات الاختراع التي باسم ستيف ، وكيفية تعامله مع بعض الأمور كمعرفته بوالده الحقيقي ، وسيجد فيها الكثير والكثير والكثير من المشاعر والمعارف والعواطف والدروس الهائلة في الحياة والعمل والأسرة والتكنولوجيا وكثير من عوالم شاسعة أشبه بالأكوان السحرية لشركة بيكسار.
يخرج المرء من هذه السيرة وهو يقدر كثيرا من الأمور في حياته ، معرفته وإعجابه بستيف أحدها بلا شك.
أكثر من 1317 دقيقة قضيتها في قراءة هذا الكتاب ، أي ما يقارب اليوم ؛ وهي مدة اقتربت فيها كثيرا من إحدى الشخصيات الرائعة والنماذج المبدعة التي لا ترضى سوى بالكمال ، الكمال فحسب. هذا التوق المضيء كنجم أزلي زيته الشغف الحقيقي والولع الدائم بالكمال والتفاصيل الصغيرة. تعلمت دروسا في الحياة أولا وفي القيادة والعمل (البزنس) ثانيا وأشياء كثيرة لا معدودة كالصحة والتكنولوجيا والشركات وغيرها الكثير.
فرغت الآن من قراءة أحد أكثر الكتب تأثيرا وعَظَمةً وعاطفة..
إن كانت العظمةُ تُقاس بما للمرء من أثر ، فإن لجوبز أثرا لا يمحى وستتحدث عنه الأجيال كأحد رواد الثورة المعرفية للبشرية في تاريخها الطويل ، جنبا لجنب مع كوبرنيكوس ودافنشي وموتزارت ونيوتن.
قراءتي لهذا العمل الضخم الثري يجعلني أكتب هذه النبذة بكثير من الحزن المؤلم ، كمن يودع صديقا عزيزا أو قريبا حميما
شعرت وكأنني عشت مع ستيف ورأيته ، وهأنذا أودعه الآن كما يليق بوداع فرعون قديم وهو يُودَع بطن هرمه المهيب في جنازة ملكية مقدسة
أعدُّ قراءتي لهذا الكتاب إحدى إنجازاتي التي أفخر بها ، وأتألم لرحيل من كُتِبت عنه..
لكن الشيء الأصيل ، تتجلى قيمته بفقده/رحيله ؛ هأنا أودع عظيما خلده التاريخ بأحرف من نار وذهب
وداعا ستيف..
@eagle_eyes_
23:23PM | 21\5\2021 الجمعة
تعليقات
إرسال تعليق