دورة تحدي عمان 21-24 يونيو 2021 | Outward Bound Oman
منذ مدة وأنا أشعر بضغط كبير جراء العمل وأمور كثيرة طرأت وتطرأ على حياتي
، هذه التقلبات التي كنت أفضي بها إلى أحد الأعزاء جعلتني أشعر برغبة حقيقية
ومشتعلة في العلاج الروحي والصفاء الذهني ؛ ولأنني اعتدت بين فينة وأخرى أن أختلي
بنفسي وأراجع ما فعلت وما سأفعل ، كان خيار العزلة لعدة أيام مطروحا بقوة.
جاء اليوم الذي أراني بارقة الأمل في الحصول على عزلة ليست كسابقاتها ، عزلة منظمة وجماعية في آن واحد!. وذلك حين شاركني ذلك العزيز إعلانا لمؤسسة Outward Bound Oman المعروف باسم (تحدي عمان). أعادني ذلك الإعلان إلى سنوات خلت كنت أحاول فيها أن أشارك في هذه الدورة التي كانت آنذاك صعبة المنال وبشروط لم أكن مستوفيا لبعضها ؛ لكن هذه المرة كانت مختلفة تماما وشعرت حقا أنني سأكون في الدورة وسيتم قبولي ، وقد تحقق الحدس بحمدالله!.
تلقيت رسالة القبول ببهجة الترقب وقلق المجهول ، إلى أن جاء اليوم الموعود..
كنت مترددا ومتوجسا من الخطوة التالية ، لم أكن أعرف ما سيحدث تاليا ولم أكن أعلم ما ينبغي لي حمله وما لا يلزم أخذه معي. أخذت الكثير مما لن أستعمله لاحقا ، وحين وصلت إلى بركة الموز بالقرب من بيت الرديدة -وصلت متأخرا جدا بسبب خطأ في التواصل- أخذنا المدربان حسين الحسني ومحمد الكندي إلى الجبل ، وابتدأت الدورة رسميا..
وصلنا إلى الجبل قبيل الظهيرة ، أخذ المدربان هواتفنا وأعطونا البُسُط والحصير لنجلس تحت شجرة علعلان -إحدى فصائل الصنوبريات- عملاقة نستظل بظلها ونناقش القادم خلال الأربعة أيام والثلاث ليالٍ المقبلة. تم تعريفنا بما سيحدث تاليا ، وهو أننا سنستغني عن حقائبنا الشخصية لنستبدلها بحقيبة ظهر تحتوي على (حقيبة النوم Sleeping Bag ، عدة طبخ كاملة بشكل دائري مرتب أبعادها 10سم×13سم تقريبا تتكون من 12 قطعة كل قطعة بداخل الأخرى -كأنها دمية ماتريوشكا في الترتيب- وهي القطع اللازمة والضرورية لتحضير الطعام ، شرشف ، سترة ضد البرودة ، سترة واقية من الأمطار ، مكان لقنينتي ماء على الجانبين) إضافة إلى الخيمة التي نحملها مع الحقيبة في وزن كلي يقترب من العشرين كيلو جرام -تنقص أو تزيد حسب ما يحمله الشخص- لذلك تم إخطارنا بأن يحمل كل امرئ منا ما يراه ضروريا وحاسما بالنسبة إليه ، ولذلك أيضا لن يستطيع المشاركون أن يحصلوا على حمام سباحة لأن ذلك سيضيف وزنا فوق الوزن الذي يحملونه.
مر اليوم الأول بسلاسة مشوبة بالقلق وجزع البدايات ، كانت الخواطر تتوارد إلى ذهني (ماذا أفعل هنا؟ أشعر بشوق عارم إلى أهلي ، أختي الصغرى ، الأصدقاء ، المنزل ، القراءة ، تضييع الوقت! ؛ وفي الوقت ذاته أتذكر كل ما قرأته عن العظماء ولزوم العزلة وكسر الرغبات النفسية الطارئة ، فيشتعل الصراع النفسي ولكني أظل متيقنا أن صعوبة البداية تعقبها حلاوة وصعوبة تقبّل النهاية التي تكون مليئة بالإنجاز والمشاعر الصادقة). من ألذ الوجبات التي أكلتها في حياتي -الوجبة الدسمة تكون في العشاء فقط ، وتتكون من معلبات (فاصولياء ، نقانق ، تونة ، أرز ، معكرونة)- كانت تلك الفاصولياء المحروقة والتي أكلتها بلذة عارمة بعد يوم طويل وشاق. وتوقعت أن أنام سريعا وبهدوء ، ولكن كان للأرق رأي آخر ، فلم أنم إلا في وقت متأخر –طوال الدورة لم يكن لدي ساعة لأعرف الوقت- وساهمت الريح القوية والحمير المنتشرة في المكان والأرض الوعرة التي بسطنا الخيمة فوقها والبرودة القارسة ؛ كلها ساهمت في ذلك الأرق الذي صاحبته أفكار البدايات المخيفة\القلقة.
لست أنسى ذكر زملاء الرحلة –تم منح كل مشارك رقما بغرض التنظيم ، كان رقمي هو الرقم 4- وهم تسعة عبدالله ، أسامة ، مروان ، تركي ، همام ، سلطان ، يحيى ، عمار ، سعيد .
استيقظنا في اليوم الثاني منذ الفجر وذلك لأن أحد الزملاء شعر بالحماس الشديد فأصبح يتردد على خيمة كل واحد منا بضع مرات وهو يصرخ بأن قوموا للصلاة -ما يدريك لعل الجميع صلى وعاد للنوم قبل لداية اليوم الشاق!- ولأنني لم أنم جيدا في الليلة الفائتة ، فقد غضبت على زميلي وعبرت عن ذلك الغضب ولكن في المجمل كنا على وفاق ولم تحدث مشادة بتاتا. كان الفطور مكونا من رقائق كورنفلكس -التي لم أحبها ولم أتذوقها إلا في ذلك اليوم- مع الحليب ، بعدها اجتمع المدرب بنا ووزع المهام علينا. كانت مهمتي هي الملاح وأعطاني المدرب جهاز تحديد المواقع GPS إضافة إلى قيادة الفريق في الرحلة ، المرشد الأمامي والمرشد الخلفي هما الشخصان اللذان يملكان البرقية ويكون أحدهما في مقدمة الركب والآخر في نهاية الركب وذلك للتنظيم وكي لا يصاب أحد بمكروه. المرشد الأمامي هو مروان والمرشد الخلفي سعيد ، والمحفز هو سلطان ودوره يتمثل في تحفيز الفريق لمواصلة المسير.
كانت الطريق وعرة وقاسية جدا ، فصخور الجبل الأخضر لا ترحم -حادة ، متفاوتة ، ومتفرقة- أي أنها باختصار ، بيئة مثالية للإصابات ولتحديات المسير أيضا.
كان كل شيء على ما يرام ، رغم ظهور الإرهاق سريعا علينا دون استثناء ، إلى أن انتصف اليوم. هنالك كان المسار يقودنا إلى النزول عبر مجرى مياه الأودية -شرجة- ورافقنا في ذلك المدرب محمد الكندي. أصعب تجربة مرت علي في الحياة كانت الساعات المقبلة في ذلك المنحدر القاسي الذي يقترب من الزاوية 90 ، نزلنا رويدا رويدا ، ولكن بدأت الإصابات تتوالى -وصلت إلى أربع إصابات من مجموع عشرة أشخاص- بدأت الأفكار المخيفة تتوالى بعد ذلك المسار المخيف\الخطير فضلا عن أننا نحمل على ظهورنا وزنا ليس بالقليل وذلك منذ الصباح!. كانت بعض الأفكار موغلة في السوداوية ، ولكن رؤيتي للرفاق المصابين وهم يبذلون أقصى ما لديهم في سبيل الوصول إلى بر الأمان منحني القوة لمواصلة المسير وتجاهل الآلام الجسدية الرهيبة. هذا المسار الصعب أظهر أفضل ما في المجموعة من خصال ؛ الشجاعة ، التعاطف ، القوة ، التحفيز ، التعاون ، العقلية العالية ، التكاتف ، الإصرار والصمود.
حين وصلنا إلى أفضل مكان مستوٍ بعد ذلك المنحدر الشاهق والمخيف ، نمنا على صخور قاسية وغير مستوية ، ولكن الغريب أننا شعرنا وكأنها ألذ وأكثر نومة هانئة حظينا بها يوما.
بعدها استكملنا المسير ولكن حدث تغيير طفيف في المسار ، فصعدنا الجبل مرة أخرى بأجساد متهالكة لا تقوى على حمل نفسها ؛ فكيف وهي تحمل حقيبة وخيمة وغطاءا جلديا سميكا هو فراش لتلك الخيمة!.عندما وصلنا للأعلى ، كانت هنالك بيوت لقرية نائية ، وللمصادفة الحسنة رأى أحد الرفاق رجلا يعرفه ، وحين سلم على ذلك الرجل ، جاء الرجل مسرعا واسمه سالم العويمري ؛ جاء إلينا وأخذ علينا الأَيمان بأن نقبل كرمه الباذخ ، حاولنا التملص منه وكن لم نستطع. فجاء بالقهوة والفاكهة إلى حيث جلسنا عند سفح الجبل. ربما هي القهوة الألذ أيضا! -نعرف قيمة الشيء حين نفقده- شكرناه على كرمه الباذخ الذي لم يكن مجرد رغبة عابرة بأن نقبل ضيافته ، بل كانت إرادة حقيقية صادقة ولكننا أخبرناه بأننا ملتزمون بجدول عمل لا يسمح لنا بذلك ، فقبل اعتذارنا بحزن.
استكملنا الطريق بعدها وذهبنا للتخييم في منطقة منخفضة نسبيا ، كان الأمر شديد الصعوبة ونحن ننزل تلك الطريق الملتوية من أعلى الجبل إلى أسفله -شبيهة بطريق عقبة العامرات في الالتواءات- إلى أن وصلنا المخيم في المغرب!. هذا اليوم الشاق يمثل كل دروس الرحلة التي يمكن توصيفها وتلك التي اخترقت الروح والنفس وستظل علامة فارقة في حياتنا ولكن لا نعرف لها توصيفا بالكلمات..
طهونا العشاء -معكرونة مع النقانق- وكان أسامة هو بطل هذه الحلقة ، حيث أنه مثّل الشيف البارع في تلك الليلة وحظينا بألذ وجبة عشاء يمكن للمرء أن يحصل عليها بعد يوم مرهق وقاتل.
استيقظنا في اليوم التالي -قطعة واحدة لحسن الحظ!- وناقشنا ما حدث بالأمس وما السبيل لإصلاح الهفوات وما الدروس التي أخذناها. قام المدرب حسين الحسني بمرافقتنا في هذا اليوم الذي كان أكثره نقاشات جادة وهادفة. تخلينا عن الخيم في هذا اليوم واستكملنا المسير بالحقيبة وحدها ، قطعنا مسافة لا بأس بها -ربما تصل إلى 30 كيلو مترا للدورة ككل- ولكن حظينا بأوقات ممتازة للنقاش والحديث والدروس المستفادة من اليومين الماضيين ، وما ينبغي فعله في بقية اليوم وفي أيام حياتنا ككل.
عدنا إلى المخيم في وقت مبكر هذا اليوم -يتحدد مكان المخيم بمكان تواجد السيارة التي تحمل الأمتعة اللازمة ولا يتكرر مكان التخييم- قمنا بنصب الخيام وأدى الجميع الصلوات بعدها استكملنا الاستعدادات لوجبة العشاء التي أظهرت أفضل وأسوأ مهارات الطبخ عندنا جميعا ؛ ولكن حتى القدور المحترقة والطعام النيء لم يكونا كافيين لإقناعنا بأنه يوجد ألذ من ذلك الطعام في الكون بأسره!. هذا اليوم كان في مجمله يوما جميلا حظينا فيه بنقاشات كثيرة وألقينا النكات التي تنسينا تعب الأمس واليوم على السواء.
كانت هذه اللية الأخيرة لنا سويا ، لذلك أشعل المدربان النار وجلسنا متحلقين حول النار -لاحظت أن المدربين كانا حازمين كثيرا فيما يتعلق بقواعد السلامة ، حتى في جلستن حول النار وضعوا مسافة أمان ولم يسمحوا لنا بتجاوزها رغم البرودة القارسة- هذه الجلسة الحميمية المليئة بالصدق ومشاعر النهاية والوداع جعلت الأنفس منشرحة للحديث ، خصوصا أنه وفي فترة المغرب تم منحنا وقتا للتأمل والتفكر فيما مضى وفيما سيأتي وهي جلسة عميقة حظي فيها كل فرد على فسحته الخاصة للاختلاء بنفسه دون تواصل مع أي كائن بشري آخر.
استيقظنا في اليوم الأخير وقمنا بتنظيف كل ما تم تسليمه لنا من حقائب وخِيَم وغيرها. حظينا بوقت رائع في عمل بعض الأنشطة والنقاشات واسترجاع ما تعلمناه في هذه الدورة من دروس نظرية وعملية ومن تجارب عميقة غيرت الكثير فينا. حين نزلنا إلى أسفل الجبل ، كانت السباحة في فلج الخطمين أمتع وأجمل جائزة منحتها نفسي. ودعنا بعضنا بعضا قبل ذلك ويحدونا أمل باللقاء واستمرار التواصل والمعرفة.
قد تبدو الدورة شيئا يشبه التدريب العسكري ، وقد يظن البعض أنها رحلة استجمام ، ويرى آخرون أنها مضيعة للوقت ، ويتحدث أناس أنها رحلة سهلة.. كل ذلك يبدو صحيحا لو نظرنا إليه من زاوية واحدة -قد تكون الزاوية خاطئة أصلا!- ولكنني أجزم أن ما تعلمناه وما عشناه وجربناه في هذه الدورة ، سيظل بداخلنا إلى الأبد ، وبأن تلك اللحظات العسيرة صقلتنا لنكون أفضل نسخة من أنفسنا ، وبأن هنالك الكثير من الأشياء التي يمكن وصفها بالكلمات ؛ ولكن هنالك أحاديث للروح لا توجد كلمات لتصفها أو لتقترب من صفها أصلا!.
لن أنسى ما حييت هذه التجربة العظيمة ، وسأكررها مستقبلا بإذن الله.
تحية صادقة للأحبة والرفاق ولن أنسى ما عشناه وخضناه سويا
دامت أرواحكم محلّقة فوق الجبال ، دامت ذكراكم عطرة نقية
دامت قلوبكم مضيئة ، ودمت عقولنا ملتهبة حية لا يحدها زمكان
تحية وحب
علاءالدين الدغيشي
جاء اليوم الذي أراني بارقة الأمل في الحصول على عزلة ليست كسابقاتها ، عزلة منظمة وجماعية في آن واحد!. وذلك حين شاركني ذلك العزيز إعلانا لمؤسسة Outward Bound Oman المعروف باسم (تحدي عمان). أعادني ذلك الإعلان إلى سنوات خلت كنت أحاول فيها أن أشارك في هذه الدورة التي كانت آنذاك صعبة المنال وبشروط لم أكن مستوفيا لبعضها ؛ لكن هذه المرة كانت مختلفة تماما وشعرت حقا أنني سأكون في الدورة وسيتم قبولي ، وقد تحقق الحدس بحمدالله!.
تلقيت رسالة القبول ببهجة الترقب وقلق المجهول ، إلى أن جاء اليوم الموعود..
كنت مترددا ومتوجسا من الخطوة التالية ، لم أكن أعرف ما سيحدث تاليا ولم أكن أعلم ما ينبغي لي حمله وما لا يلزم أخذه معي. أخذت الكثير مما لن أستعمله لاحقا ، وحين وصلت إلى بركة الموز بالقرب من بيت الرديدة -وصلت متأخرا جدا بسبب خطأ في التواصل- أخذنا المدربان حسين الحسني ومحمد الكندي إلى الجبل ، وابتدأت الدورة رسميا..
وصلنا إلى الجبل قبيل الظهيرة ، أخذ المدربان هواتفنا وأعطونا البُسُط والحصير لنجلس تحت شجرة علعلان -إحدى فصائل الصنوبريات- عملاقة نستظل بظلها ونناقش القادم خلال الأربعة أيام والثلاث ليالٍ المقبلة. تم تعريفنا بما سيحدث تاليا ، وهو أننا سنستغني عن حقائبنا الشخصية لنستبدلها بحقيبة ظهر تحتوي على (حقيبة النوم Sleeping Bag ، عدة طبخ كاملة بشكل دائري مرتب أبعادها 10سم×13سم تقريبا تتكون من 12 قطعة كل قطعة بداخل الأخرى -كأنها دمية ماتريوشكا في الترتيب- وهي القطع اللازمة والضرورية لتحضير الطعام ، شرشف ، سترة ضد البرودة ، سترة واقية من الأمطار ، مكان لقنينتي ماء على الجانبين) إضافة إلى الخيمة التي نحملها مع الحقيبة في وزن كلي يقترب من العشرين كيلو جرام -تنقص أو تزيد حسب ما يحمله الشخص- لذلك تم إخطارنا بأن يحمل كل امرئ منا ما يراه ضروريا وحاسما بالنسبة إليه ، ولذلك أيضا لن يستطيع المشاركون أن يحصلوا على حمام سباحة لأن ذلك سيضيف وزنا فوق الوزن الذي يحملونه.
مر اليوم الأول بسلاسة مشوبة بالقلق وجزع البدايات ، كانت الخواطر تتوارد إلى ذهني (ماذا أفعل هنا؟ أشعر بشوق عارم إلى أهلي ، أختي الصغرى ، الأصدقاء ، المنزل ، القراءة ، تضييع الوقت! ؛ وفي الوقت ذاته أتذكر كل ما قرأته عن العظماء ولزوم العزلة وكسر الرغبات النفسية الطارئة ، فيشتعل الصراع النفسي ولكني أظل متيقنا أن صعوبة البداية تعقبها حلاوة وصعوبة تقبّل النهاية التي تكون مليئة بالإنجاز والمشاعر الصادقة). من ألذ الوجبات التي أكلتها في حياتي -الوجبة الدسمة تكون في العشاء فقط ، وتتكون من معلبات (فاصولياء ، نقانق ، تونة ، أرز ، معكرونة)- كانت تلك الفاصولياء المحروقة والتي أكلتها بلذة عارمة بعد يوم طويل وشاق. وتوقعت أن أنام سريعا وبهدوء ، ولكن كان للأرق رأي آخر ، فلم أنم إلا في وقت متأخر –طوال الدورة لم يكن لدي ساعة لأعرف الوقت- وساهمت الريح القوية والحمير المنتشرة في المكان والأرض الوعرة التي بسطنا الخيمة فوقها والبرودة القارسة ؛ كلها ساهمت في ذلك الأرق الذي صاحبته أفكار البدايات المخيفة\القلقة.
لست أنسى ذكر زملاء الرحلة –تم منح كل مشارك رقما بغرض التنظيم ، كان رقمي هو الرقم 4- وهم تسعة عبدالله ، أسامة ، مروان ، تركي ، همام ، سلطان ، يحيى ، عمار ، سعيد .
استيقظنا في اليوم الثاني منذ الفجر وذلك لأن أحد الزملاء شعر بالحماس الشديد فأصبح يتردد على خيمة كل واحد منا بضع مرات وهو يصرخ بأن قوموا للصلاة -ما يدريك لعل الجميع صلى وعاد للنوم قبل لداية اليوم الشاق!- ولأنني لم أنم جيدا في الليلة الفائتة ، فقد غضبت على زميلي وعبرت عن ذلك الغضب ولكن في المجمل كنا على وفاق ولم تحدث مشادة بتاتا. كان الفطور مكونا من رقائق كورنفلكس -التي لم أحبها ولم أتذوقها إلا في ذلك اليوم- مع الحليب ، بعدها اجتمع المدرب بنا ووزع المهام علينا. كانت مهمتي هي الملاح وأعطاني المدرب جهاز تحديد المواقع GPS إضافة إلى قيادة الفريق في الرحلة ، المرشد الأمامي والمرشد الخلفي هما الشخصان اللذان يملكان البرقية ويكون أحدهما في مقدمة الركب والآخر في نهاية الركب وذلك للتنظيم وكي لا يصاب أحد بمكروه. المرشد الأمامي هو مروان والمرشد الخلفي سعيد ، والمحفز هو سلطان ودوره يتمثل في تحفيز الفريق لمواصلة المسير.
كانت الطريق وعرة وقاسية جدا ، فصخور الجبل الأخضر لا ترحم -حادة ، متفاوتة ، ومتفرقة- أي أنها باختصار ، بيئة مثالية للإصابات ولتحديات المسير أيضا.
كان كل شيء على ما يرام ، رغم ظهور الإرهاق سريعا علينا دون استثناء ، إلى أن انتصف اليوم. هنالك كان المسار يقودنا إلى النزول عبر مجرى مياه الأودية -شرجة- ورافقنا في ذلك المدرب محمد الكندي. أصعب تجربة مرت علي في الحياة كانت الساعات المقبلة في ذلك المنحدر القاسي الذي يقترب من الزاوية 90 ، نزلنا رويدا رويدا ، ولكن بدأت الإصابات تتوالى -وصلت إلى أربع إصابات من مجموع عشرة أشخاص- بدأت الأفكار المخيفة تتوالى بعد ذلك المسار المخيف\الخطير فضلا عن أننا نحمل على ظهورنا وزنا ليس بالقليل وذلك منذ الصباح!. كانت بعض الأفكار موغلة في السوداوية ، ولكن رؤيتي للرفاق المصابين وهم يبذلون أقصى ما لديهم في سبيل الوصول إلى بر الأمان منحني القوة لمواصلة المسير وتجاهل الآلام الجسدية الرهيبة. هذا المسار الصعب أظهر أفضل ما في المجموعة من خصال ؛ الشجاعة ، التعاطف ، القوة ، التحفيز ، التعاون ، العقلية العالية ، التكاتف ، الإصرار والصمود.
حين وصلنا إلى أفضل مكان مستوٍ بعد ذلك المنحدر الشاهق والمخيف ، نمنا على صخور قاسية وغير مستوية ، ولكن الغريب أننا شعرنا وكأنها ألذ وأكثر نومة هانئة حظينا بها يوما.
بعدها استكملنا المسير ولكن حدث تغيير طفيف في المسار ، فصعدنا الجبل مرة أخرى بأجساد متهالكة لا تقوى على حمل نفسها ؛ فكيف وهي تحمل حقيبة وخيمة وغطاءا جلديا سميكا هو فراش لتلك الخيمة!.عندما وصلنا للأعلى ، كانت هنالك بيوت لقرية نائية ، وللمصادفة الحسنة رأى أحد الرفاق رجلا يعرفه ، وحين سلم على ذلك الرجل ، جاء الرجل مسرعا واسمه سالم العويمري ؛ جاء إلينا وأخذ علينا الأَيمان بأن نقبل كرمه الباذخ ، حاولنا التملص منه وكن لم نستطع. فجاء بالقهوة والفاكهة إلى حيث جلسنا عند سفح الجبل. ربما هي القهوة الألذ أيضا! -نعرف قيمة الشيء حين نفقده- شكرناه على كرمه الباذخ الذي لم يكن مجرد رغبة عابرة بأن نقبل ضيافته ، بل كانت إرادة حقيقية صادقة ولكننا أخبرناه بأننا ملتزمون بجدول عمل لا يسمح لنا بذلك ، فقبل اعتذارنا بحزن.
استكملنا الطريق بعدها وذهبنا للتخييم في منطقة منخفضة نسبيا ، كان الأمر شديد الصعوبة ونحن ننزل تلك الطريق الملتوية من أعلى الجبل إلى أسفله -شبيهة بطريق عقبة العامرات في الالتواءات- إلى أن وصلنا المخيم في المغرب!. هذا اليوم الشاق يمثل كل دروس الرحلة التي يمكن توصيفها وتلك التي اخترقت الروح والنفس وستظل علامة فارقة في حياتنا ولكن لا نعرف لها توصيفا بالكلمات..
طهونا العشاء -معكرونة مع النقانق- وكان أسامة هو بطل هذه الحلقة ، حيث أنه مثّل الشيف البارع في تلك الليلة وحظينا بألذ وجبة عشاء يمكن للمرء أن يحصل عليها بعد يوم مرهق وقاتل.
استيقظنا في اليوم التالي -قطعة واحدة لحسن الحظ!- وناقشنا ما حدث بالأمس وما السبيل لإصلاح الهفوات وما الدروس التي أخذناها. قام المدرب حسين الحسني بمرافقتنا في هذا اليوم الذي كان أكثره نقاشات جادة وهادفة. تخلينا عن الخيم في هذا اليوم واستكملنا المسير بالحقيبة وحدها ، قطعنا مسافة لا بأس بها -ربما تصل إلى 30 كيلو مترا للدورة ككل- ولكن حظينا بأوقات ممتازة للنقاش والحديث والدروس المستفادة من اليومين الماضيين ، وما ينبغي فعله في بقية اليوم وفي أيام حياتنا ككل.
عدنا إلى المخيم في وقت مبكر هذا اليوم -يتحدد مكان المخيم بمكان تواجد السيارة التي تحمل الأمتعة اللازمة ولا يتكرر مكان التخييم- قمنا بنصب الخيام وأدى الجميع الصلوات بعدها استكملنا الاستعدادات لوجبة العشاء التي أظهرت أفضل وأسوأ مهارات الطبخ عندنا جميعا ؛ ولكن حتى القدور المحترقة والطعام النيء لم يكونا كافيين لإقناعنا بأنه يوجد ألذ من ذلك الطعام في الكون بأسره!. هذا اليوم كان في مجمله يوما جميلا حظينا فيه بنقاشات كثيرة وألقينا النكات التي تنسينا تعب الأمس واليوم على السواء.
كانت هذه اللية الأخيرة لنا سويا ، لذلك أشعل المدربان النار وجلسنا متحلقين حول النار -لاحظت أن المدربين كانا حازمين كثيرا فيما يتعلق بقواعد السلامة ، حتى في جلستن حول النار وضعوا مسافة أمان ولم يسمحوا لنا بتجاوزها رغم البرودة القارسة- هذه الجلسة الحميمية المليئة بالصدق ومشاعر النهاية والوداع جعلت الأنفس منشرحة للحديث ، خصوصا أنه وفي فترة المغرب تم منحنا وقتا للتأمل والتفكر فيما مضى وفيما سيأتي وهي جلسة عميقة حظي فيها كل فرد على فسحته الخاصة للاختلاء بنفسه دون تواصل مع أي كائن بشري آخر.
استيقظنا في اليوم الأخير وقمنا بتنظيف كل ما تم تسليمه لنا من حقائب وخِيَم وغيرها. حظينا بوقت رائع في عمل بعض الأنشطة والنقاشات واسترجاع ما تعلمناه في هذه الدورة من دروس نظرية وعملية ومن تجارب عميقة غيرت الكثير فينا. حين نزلنا إلى أسفل الجبل ، كانت السباحة في فلج الخطمين أمتع وأجمل جائزة منحتها نفسي. ودعنا بعضنا بعضا قبل ذلك ويحدونا أمل باللقاء واستمرار التواصل والمعرفة.
قد تبدو الدورة شيئا يشبه التدريب العسكري ، وقد يظن البعض أنها رحلة استجمام ، ويرى آخرون أنها مضيعة للوقت ، ويتحدث أناس أنها رحلة سهلة.. كل ذلك يبدو صحيحا لو نظرنا إليه من زاوية واحدة -قد تكون الزاوية خاطئة أصلا!- ولكنني أجزم أن ما تعلمناه وما عشناه وجربناه في هذه الدورة ، سيظل بداخلنا إلى الأبد ، وبأن تلك اللحظات العسيرة صقلتنا لنكون أفضل نسخة من أنفسنا ، وبأن هنالك الكثير من الأشياء التي يمكن وصفها بالكلمات ؛ ولكن هنالك أحاديث للروح لا توجد كلمات لتصفها أو لتقترب من صفها أصلا!.
لن أنسى ما حييت هذه التجربة العظيمة ، وسأكررها مستقبلا بإذن الله.
تحية صادقة للأحبة والرفاق ولن أنسى ما عشناه وخضناه سويا
دامت أرواحكم محلّقة فوق الجبال ، دامت ذكراكم عطرة نقية
دامت قلوبكم مضيئة ، ودمت عقولنا ملتهبة حية لا يحدها زمكان
تحية وحب
علاءالدين الدغيشي
@eagle_eyes_
11:40 PM | 24-6-2021
تعليقات
إرسال تعليق