في مَدِيحِ التَّغْيِير | 17 يوليو 2025
تعتري الإنسانَ مشاعر لا يعرف لها سببها ولا مدخلها الذي ولجت مِنْهُ إِليهِ، ويظلُّ متفكرا في
السبيل الذي يسلكه في التعامل مع تلك المشاعر التي تزوّده بالطاقة للعمل وحب
الحياة، أو تَطْمُرُهُ وتُخْمِدُ نارَ توهُّجِهِ واشتعالِهِ وأَلَقِهِ. فلا يجد
محيصا عن معرفة المَسلَك الذي يسلُكُهُ وينتشلُهُ من حَالَة الخَوَرِ والضعف
ليُغّير من حاله ومآلِهِ، فيصطدم بخيارين لكليهما ضريبةٌ وثمن؛ فإما التغيير
والصبر على ثمن التغيير وضريبته، أو الرضا بالحال والخنوع وترك المحاولة. إننا
نخشى التغيير في كثير من الأحيان، فالتغيير يعني أن نتعامل مع أشياءَ جديدةٍ،
أشياءَ لا نعرفها، أشياءَ لم نعتد عليها. فقد يغير الإنسان عمله، أو مسكنه، أو
يغادر موطنه لفترة ما، أو مساره الأكاديمي حتى؛ لكن التغيير الأصعب والأكبر
والأكثر أهمية، هو تغيير النفس. فنحن ننظر إلى الخارج كثيرا، لكن ما ينبغي النظر
إليه بعين التجرد والموضوعية -لا بعين التجريح الهادم أو الانتشاء والرضا الخادع
بالنفس ولها- هو النظر إلى دواخل ذاتنا وضبطها ومراقبتها. يمتدح الناس الرتابة اليومية،
وهم صادقون في مديحهم إياها؛ ولكن بشروط. فالرتابة التي تجعلنا نكمل سلسلة الأعمال
التي نحب، والحياة التي نأمل ونتطلع إلى تحقيقها، والوضع النفسي والعائلي المستقر،
كلها مما يجعل الرتابة فيها شيئا حُلوًا وعَذبا؛ لكن متى تكون الرتابة هي الصواب
والحقيقة؟.
إن إنسان اليوم هو
الإنسان الأكثر حظا في تاريخ البشرية منذ بدايتها، فهو محظوظ بوفرة الخيارات،
والمسالك، ودروب الخير الكثيرة التي يستطيع سلوكها واقتفاءها. لكن هذه الوفرة هي
ما يجعلهم متخمين أحيانا، فهي وفرة خيّرة متى ما عرفنا استعمالها، وسامَّة متى غاب
عنا المنطق القويم الذي نزن به الأمور ونقيسها. كما أن الإنسان العربي محظوظ أيضا،
فهو الذي خاطبه الله تعالى بلغة يفهمها رغم القرون التي مضت وتوالت مذ أنزل كتابه
الكريم، وهي مُزية تفقدها أغلب الديانات التي تستدعي أن يقوم رجال بشرح المُراد والمذكور
في تلك الكتب المقدسة، فقد غدت تلك الكتب كُتُبًا للخاصة لا العامة، فهم وسطاء
دوما بين العبد وربه، والقرآن الكريم نقيض ذلك تماما، فهو يخاطب المرء مباشرة دون
الحاجة إلى وسيط.
يخاطبنا الله
تعالى بقوله "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ"، وهو خطاب فيه من الدلالات والمعاني
ما فيه. فهو يتحدث إلينا باعتبارنا الفاعِلين المسؤولين عن أفعالنا، والمؤثرين
فيها، والعارِفين لواقع حالنا وكيفية تغيير ذلك الحال. فالله تعالى لا يغيّر ما
فينا ابتداءً ودون عمل، بل هو يغيّر ما بأنفسنا بعد رغبتنا نحن بذلك التغيير
والسعي إليه. وقد تعمدت ذكر الإنسان العربي لا المسلم فحسب، وذلك لأن القرآن
الكريم بلغته العربية البيّنة العذبة، يفهمه كل ناطق بهذه اللغة وقارئ ومتحدث بها.
ولم يقتصر قَبَسُ نوره على المؤمنين بهِ، المُصَدِّقينَ لهُ فحسب، بل تَعَدَّاهُ
إلى كثيرٍ من الباحثين عن الحكمةِ والحقيقةِ في المشارِبِ التي يؤمنون بها وتلك التي
لا يؤمنون بها على السَّوَاء، فهم باحثون عن الحق بغضِّ النظرِ عن المنبع الذي يَنْبُعُ
منه. لذلك نجد المُعَلِّم بطرس البُستاني صاحب أول موسوعة عربية معاصرة، ويعقوب صَرُّوف
مؤسس مجلة "المُقتطف"، وشِبلي الشَّمَيِّل الذي يُعَدُ أول من أدخل
نظرية النشوء والارتقاء لداروين إلى ثقافتنا العربية، وهو ماديٌّ -مذهب فلسفي-
تطوريٌّ، وأنطوان بارا وغيرهم كثير لا يسع المقام لذكرهم؛ فهؤلاء كلهم لم يكونوا
مؤمنين بالقرآن الكريم باعتباره كتابا سماويا مقدسا، لكنهم تأثروا به قِيَميا
وأخلاقيا ولغويا واعترفوا بذلك التأثر. والشاهد هنا، هو قابلية المرء للتأثر الجيد
والحسن واتّباعه الحَسَنَ فالأحسن في اختياراته وأطواره التي يرتقيها.
وكي لا تشب
المقالة عن طوقها الذي وضعته لها، فإن التغيير يتطلب الاعتراف بواقع الحال،
والتغيير لا يأتي عَرَضًا أو بغير قصد ونيّة؛ بل هو شيء نابع من الإنسان ذاته،
ونقده لذاته، وعدم رضاه بواقعه الذي يريد تغييره. والاعتراف يتطلب شجاعة وصدقا،
فما أسهل المراوغة والمماحكة في استعمالنا للحجج وتسويغنا لها حين نريد فعل شيء أو
حين نحجم عن فعل شيء ما، لكننا ندرك في دواخلنا الصواب الذي ينبغي أن نسلكه،
والخطأ الذي ينبغي نبذه واجتنابه. أؤمن أن في كل إنسان بُضعة خَيِّرة مهما تكالب
عليها من ظلام، وكلما أَرْهَفَ المرء حواسَّهُ للانتباه إلى تلك البُضعة، أدركَ ما
ينبغي فعله. تلك البُضعة هي ما يجعلنا نشعر بالسوء حين نحيد عن ما نؤمن به في
دواخلنا، وقد يكون ما نؤمن به غير الذي نفعله، وذلك لخشيتنا من التغيير ومن حكم
الآخرين على ذلك التغيير؛ لأجل هذا بالذات يتطلب الأمر شجاعَةً وصِدْقًا.
إنَّ الخَشْيَةَ من
التغيير أمرٌ طبيعي، لما يرافق ذلك التغيير من فقدان لأشياء اعتدنا عليها وأَلِفَتها
نُفُوسُنَا. بل قد يتعدَّى التغيير الذي نقوم به تغيير الأفعال إلى تغيير الأشخاص
والمحيط الذي نجلس ونتعامل معه، ولكن هل
من المعقول أن يصبر المرء على السُّمِّ لأنه اعتاد عليه فحسب؟. ويمكن للقارئ
الكريم أن يرجع إلى مقالتي "بذرو الشجرة السامة" و"المنطوق
واللامنطوق في البناء الاجتماعي" ليراجع محيطه ويعرض ما
يراه ويسمعه على ميزان العقل والحكمة، فمن السُّمِّ ما يَتَبَدَّى عَسَلًا!. يحدث هذا
الأمر أيضا -الاعتياد على السُّمِّ- للإنسان المدمن على عادات سيئة في حياته، فهو
لا يتخيَّل أنَّ بمقدوره تغيير تلك العادات؛ لذلك يبدأ أمر التغيير بتغييرِ تصورنا
للشيء، فنحن نفعل ما نفعله بناء على رؤيتنا لأنفسنا والتصوُّر الذي نبنيه عنها
والواقع الذي نريد أن نصبح عليه، وهذا التصور هو السائق لنا لفعل ما نفعله واجتناب
ما نجتنبُهُ. وهنا يتساءل المرء عن قدرته على التغيير، ولكن المسألة تكمن في فعل الصواب
ومشاهدة النتائج بغض النظر عن شعورنا في تلك اللحظة، ورغبتنا في المبادرة بالفعل،
فالرغبة والتصور لا يفيدان إن لم يرافقهما العمل. إننا نعمل على مشاريعنا ووظائفنا
أكثر مما نعمل على صنع أنفسنا وتجويدها، ولكن الاستثمار الحقيقي يكون في أنفسنا،
صحتنا، عقلنا ومستقبلنا، وهو الاستثمار الوحيد المضمون النجاح. لأن أي نجاح خارجي
لا يكون إلا انعكاسا للتوازن الداخلي، والنجاح هنا لا يعني بالضرورة شيئا ماديا؛
فالطمأنينة والسَّكينة وراحة القلب والبال كُلُّها نجاح عظيم، ويتَأَتَّى ذلك
بموافقة الداخلِ للخارج.
يتعلق أمر التغيير
بالانضباط الذي نلتزم به في حياتنا، فهو الجسر الواصل بين أهدافنا وما نرغب
بتحقيقه، وبين أن نحقق تلك الأهداف حقا. في مقالة لي سابقة في جريدة عمان بعنوان
"كتاب واحد!"، تحدثت عن أثر الأفعال الصغيرة وتراكمها الذي يصنع التغيير، فالتفاصيل الصغيرة مثل مراقبة المشاعر
أو الأفكار السيئة التي تتبادر إلى ذهننا، والمحيط والمناخ الذي تولدت فيه تلك
الأفكار؛ يرشدنا إلى الموضع الذي نُعْمِلُ فيهِ المِبضع الأولَ لاجتثاث المثبطات
عن التحسين الذي نأمله. فإذا شئت أن تتغير حياتك، فغيّر من نفسك أولا؛ فإلقاء
اللوم على الصيف، ومدارات النجوم، والكائنات الفضائية المختبئة في كثبان الربع
الخالي، هو تَنَصُّلٌ من المسؤولية، ومتى تحمّلت مسؤولية نفسك وقراراتك، بدأت
التحولات الكبرى في حياتك. فصورتك عن نفسك ليست شيئا تطارده وتتمناه، بل هو شيءٌ
تصبح عليه حين تقرر ذلك بصدق.
عودا على بدء،
فالرتابة تكون الجواب الصحيح والوضع الصحي للمرء حين يستقر به النوى، ويُلقي عصا
تَسيَاره، وتَقرَّ عينُه بما بَلَغَهُ ويَبْلُغُهُ بجهادِهِ لنفسِهِ ومخالَفَةِ ما
يُثَبِّطُهُ أو يَسحبُه للوراء. ومن تلك المثبطات -أحيانا- هم الناس الذين نجلس
معهم، وهذا حاصل في المجموعات التي تتبنى أفكارا أو أفعالا سيئة بالذات. فالعنف
اللفظي الممارس على من يريد التغيير من "ايش تبالهن الكتب"، "خلاص
انته أحسن واحد"، "أتحشرها" وغيرها من العبارات المُلقاة بنكهة
ساخرة، تحمل في طِيَّاتها صورةَ يدِ الغريق الذي لا يريد للمُنقِذِ أن ينقذه؛ بل
يريد أن يسحبه معه إلى حيث القعر السحيق. فهي قيءُ الحاسد الذي لا يريد للآخر أن
يكون أفضل منه، ويُلقيها بنبرة ساخرة كي لا ينتبَّه أحدٌ إلى ذلك القَيح اللُّغَوي
من فمِ مريضِ النَّفْس. التغيير هدفٌ وغاية، وبدون الهدف والغاية فإن الإنسان
ضالٌّ لا مَحالة.
جَرِّب أن تفعل
شيئا مختلفا اليوم، لا تنتظر نهاية السنة أو بدايتها، أو ذكرى يوم ميلادك؛ فهي
أشياء لا نتحكم بها، لكننا نتحكم بأفعالنا ومتى نبدأ تلك الأفعال. فالحُزن كما
يقول الفيلسوف الكندي، حزنان؛ عارِضٌ ومُستَحدَث. وهو يُصيبنا لفَقْدِ مَحبوبٍ أو
فَوتِ مَطلوب. فَمِنَ الحُزنِ ما يكون عارضًا لا يَدَ لنا فيه، وذلك في النواميسِ
الكونيةِ التي لا تتغير لإرادةِ الإنسانِ ورغبته. ومنه ما يكون اختيارًا، وذلك الذي
نتسببُ به، ولنا يَدٌ في حدوثه. وهكذا التََّغَيُّرُ؛ فهو من الأمور التي لنا اليد
الطُّولَى فيها. فاختر لنفسك الخسارات التي تصقلك وتُخرج أفضلَ ما فيك، فبعض
الخساراتِ ربحٌ، وبعضُ الأرباحِ خسارةٌ؛ فاخسر الأشياء التي تؤذيك لتربحَ نفسَكَ،
ولا تخسر نفسك في سبيل الأرباح الظاهرة.
أحسنت 👏🏻
ردحذفشكرا جزيلا 🌹
حذفوالله الواحد يقف عاجز أمام هذا المشهد
ردحذف🌹🌹🌹🌹
حذف