بَرِحَ الخَفَاء | 21 أغسطس 2025
«بَرِحَ الخَفاءُ: أي زَالَ، من قولهم «ما بَرِحَ يفعل كذا» أي ما زَالَ، والمعنى زالَ السرُّ فوَضَحَ الأمرُ، وقال بعضهم: الخفاء المتطأطئ من الأرض، والبَراحُ: المرتفعُ الظاهر، أي صار الخفَاء بَرَاحا، وقال:
بَرِحَ الخَفَاء فَبُحْتُ بالكتمان ... وشَكَوْتُ ما ألقى إلى الإخْوان
لو كان ما بي هَيِّنًا لكَتمْتُهُ ... لكنّ مابي جَلَّ عن كِتْمَانِ.»
مَجْمَعُ الأمثالِ للميداني، رقم 460 وفق نسخة المكتبة الشاملة على الإنترنت.
قبل سنة ونيِّف، سافرت وصديقي إلى دولة إسلامية في التوجه، علمانية بحكم الواقع، لا هي بالأوروبية، ولا الآسيوية فتارة إلى هؤلاء، وتارة إلى أولئك. وكان أجمل ما في رحلتنا تلك حواراتنا مع الناس ومعرفة حياتهم ومعاشهم ورؤاهم وأفكارهم عن العرب والعالم. كنا نمشي في السوق على غير هدى، وكانت الفكرة أن نستكشف المكان مشيا على الأقدام، وأن نستكشف لا الأمكنة الشهيرة التي يُروَّج لها في الإعلام ووكالات السياحة، بل تلك الخفيّة المختبئة في زوايا النسيان، وشقوق الذاكرة. ونحن نتمشى في ذلك السوق العتيق، إذ بي أرى شيئا شدني إليه في سكة قديمة «مكتبة» مكتوبة هكذا باللغة العربية، تناولت صديقي من قميصه لأريه المفاجأة السارة كمن وجد عزيزا، أو رأى حبيبا غائبا منذ زمن. ولجنا إلى تلك السكة بشوق المحب إلى محبوبه، وهرعنا مباشرة إلى الرف الخارجي المليء بالكتب المستعملة القديمة جدا، والنادرة جدا جدا. فوجدنا فيها من الكنوز ما منع طبعه، أو اندثر ذكره، أو انقرضت الدار التي تنشره، فجمعناها بسرعة كما لو أن وراءنا جيشا يسابقنا على تلك الكنوز وتلكم اللُّقَى.
دلفنا إلى داخل المكتبة بعدما قضينا وطرنا من الرف الخارجي ولآلئه، فإذا بنا ندخل إلى عالم بهي ساحر من الأرفف الممتدة من الأرض إلى أقصى نقطة في سماء المكتبة. وبنظرة سريعة، أدركنا أنها مكتبة ذات توجه إسلامي مذهبا وفقها وعقيدة، مع كتب منوعة في علم الكلام والطب والأدب والفلسفة كصوان الحكمة للسجستاني وكتاب المنطق للشيخ الرئيس، ونوادر نفيسة من المخطوطات. وقعت عيني على كتب اللغة والأدب، وابتهجت أيما ابتهاج برؤية أحد كتب وزارة التراث والثقافة -سابقا- في رف تلك المكتبة. وهنا أستطرد قليلا، فقد نسيت عنوان الكتاب ومؤلفه، ولكنني أتذكر موضوعه وغلافه الخارجي جيدا، وقد بحثت أثناء كتابتي لهذه المقالة عن مسرد الكتب والإصدارات التي أصدرتها الوزارة بحلتها القديمة لأوثق عنوان الكتاب الذي رأيت، فأنهكني البحث، وعييت لأن أجد شيئا يدل على الكتب المطبوعة كاملة، إن لم يكن على متن تلك الكتب ذاتها، ولكن دون أي طائل؛ فهل يعقل أن نطبع الكتب وننتظر من العالم أن يعرف ما لعمان وأهلها من الكتب الورقية فحسب؟ وأن نغفل الوسائل الإلكترونية؟. ففي استطرادي هذا دعوة حقيقية من محب لأن يتم العمل على توفير كافة الكتب التي طبعتها الوزارة بكافة تسمياتها وبكافة عصورها منذ 1970 حتى اليوم، بصيغة إلكترونية ميسّرة. فإن لم يكن هذا لأجل أجيال عمان في الداخل والخارج خصوصا المبعثين وطلاب العلم في الدراسات الأكاديمية كافة، فعلى الأقل كي يعرف العالم ما عندنا من معرفة وإنتاج ثقافي وحضاري يستعمل أدوات العصر في الإفصاح عن ذاته وتبيان ما عنده بلسانه الناطق صورةً، وموقعا إلكترونيا، وبودكاست وغيرها من الوسائل المتداولة المتاحة.
عود على بدء؛ تحدثت إلى بائع المكتبة وصاحبها، وهو شاب كُردي ملتحٍ لم يُخفِ أصله الكردي مع ما لذلك من حساسية وموقف في تلك الدولة. فاجأني ذلك الشاب بسؤال أغرب من الطرف الذي يذكرها الجاحظ في كتبه، وهو سؤال عن المذهب الإباضي في سلطنة عمان وأنه سمع بأن الإباضية يرون بأن المرء إذا نظر إلى امرأة ليست من محارمه، فإنه يخرج من الملة!، وهو يقصد النظر على إطلاقه لا على تفصيله وما لتلك التفاصيل من آراء فقهية لا يوصل أيٌّ منها لأن يخرج أحدا من ملته ودينه. ولم أذكر بأن شيئا أضحكني كهذا الذي سمعت يومها، فقلت لذلك الشاب على سبيل الطرافة والنقد «إذن لا يوجد إباضي مسلم على وجه هذه الأرض لو كان الأمر كذلك!؛ لأن المرأة عندنا تعمل وتذهب وتجيء ونراها في كل مكان في المجتمع وليست مغلولة محبوسة». وبينت له جهالة النظر إلى الآخرين بدون رويّة أو تبصّر، واستشهدت بطائفته هو «الأكراد»، وقلت له بأننا نعرف الأكراد من الإعلام ولا نعرفهم على أرض الواقع، فهل من الحكمة أن نقول بأنهم «إرهابيون» كما يصورهم إعلام تلك الدولة؟ أم أن الإنصاف يتطلب أن نعرفهم من قولهم ولسانهم الناطق، لا من المتحدثين عنهم والناطقين عنهم.
هذا الحوار جذبنا إلى الحديث عن علاقة بعض الأكراد بالصهاينة، والتمويل الذي يحصلون عليه؛ ففوجئت بأنه يقول لي «كنا نتعاطف مع الإسرائيليين لأنهم شعب مظلوم وتعرض لأقسى المصائب والجرائم في التاريخ، ولكن ما يفعلونه في غزة أمر صادم» قالها كمن يتحدث عن ضحية ولا يريد التصديق بأن من يدعي بأنه ضحية في الحقيقة هي الجلاد ذاته!. وهو أمر مفهوم بأن يصدر عن شخص جاء من طائفة ترى بأنها تتعرض للاضطهاد، ففي الرواية الصهيونية الدائمة ما يقرّب المضطهدين الذين لا يعرفون حقيقتهم إليهم، ولكنه غريب أن يصدر من مسلم، ومتدين أيضا!. فبينت له بأن الصهيوني غير اليهودي، وأن اليهودي غير الإسرائيلي، وأن إسرائيل ذاتها في تسميتها خدعة وتضليل وتطبيع؛ فأن يتم الربط بين اليهودية كدين، وبين كيان الاحتلال الصهيوني، هو ظلم لليهودية وإسباغ على الصهيونية صبغة دينية تشرعن جرائمها. واستشهدت مرة أخرى بدور الإعلام في جعل الضحية جلادا والعكس، وهو ذات ما يحدث في مسألة الأكراد. أما المثل الذي أورده الميداني في كتابه، فهو خير شاهد ودليل على اليقظة العالمية والهزة التي أصابت وعي شعوب العالم وقد استيقظوا من غفلتهم، وفتحوا أعينهم على حقيقة هذا الكيان الغاصب، وسقطت السردية الصهيونية سقطة لا قائمة لها بعد اليوم، فقد برح الخفاء، وأبان الصبح عن زيف البارحة، وأحرقت الشمس بيت العنكبوت، وما هي إلا مدة ويتحرر الجسد العربي من هذا السرطان القميء، طالت المدة أم قصرت، إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب؟.
تعليقات
إرسال تعليق