بيرس ديكنز | 28 أغسطس 2025


رَحْمَةٌ على المقاس: للاستعمال الداخلي فقط!


أينما ولى المرء وجهه في عالم اليوم، لا يجد بدا ولا محيصا عن السياسة قراءةً، ونقدا، أو حتى حديثا عابرا. وفي عالم اليوم الذي لم يعد على صفيح ساخن كما اعتاد الأدباء والمنظرون القول، بل صار في قلب الانفجار الذي لا يعلم المرء متى يُحرقه أو يصيبه شرره على الأقل. ومثلما يتطور كل شيء، تطورت طرق الحق والباطل على السواء، وانشطرت لمفاهيم لتغدو أكثر ضبابية وأنفع للذي يلوّح بها؛ فهي نافعةٌ تارة، وضارة أخرى، وفقا للسياق الذي تكون فيه ولواقع الحال والمكاسب المترتبة على كل ذلك. لم يكن العالم الغربي نشازا في تضبيب المفاهيم والرؤى وفقا لمصالح النخب المنتفعة والطغم الحاكمة بفعل الاقتصاد والمال والنفوذ وصعود الأصوات النافعة التي يتم تصديرها في المشهد باعتبارها رأس الحربة والواجهة الفاعلة، وهي في الحقيقة مجرد ماريونيت في شكل إنسان يتم استعمالها فترة، ثم يطويها النسيان. وهذا ليس مقتصرا على السياسيين فحسب، بل تعداه إلى باقي الجبهات النافعة التي تصب في مصلحة المحرك الرئيس للمشهد، ومن هذه المحركات الإعلام بطبيعة الحال.


يتحدث العلم بلغة الأنماط لا الحالات الفردية، فكما هو مشهور في تلك العبارة الأثيرة "لكل قاعدة شواذ"، فإن العلم يتبع القواعد، ويرصد الشواذ وتكرارها. فإن تكررت الشواذ، صارت قاعدة، وإن لم تتكرر فيتم تصنيفها باعتبارها حال فردية لها محركاتها الداخلية الخاصة. وهذا ينطبق على مناح كثيرة أخرى، كعلم النفس، والاقتصاد، والسياسة، والإعلام مرة أخرى.


لم تكن الكتب مجرد وسيلة ترفيهية فحسب، أو اسما في الهواء لنيل الشهرة، المكاسب، والحظوة الاجتماعية. كانت في كثير من الأحيان العين البصيرة التي ظلت مفتوحة رغم الدمع والدم، فهي عين لم تُغمض يوما عن المجازر والوحشية التي يرتكبها الإنسان في بني جلدته، ولم تنس أن تذكرنا بالنمط الذي يتكرر مرة تلو أخرى في ماريونيتات مختلفة -الماريونيت هي دمية يتم تحريكها بالخيوط وتتحكم بها يد خفية لا تظهر في المشهد عادة- في أزمنة متعددة. لذلك كان من واجب قوات الاحتلال الصهيوني قتل الصحفيين بوحشية، فهم نظير الكتب في وقت كان الكتاب يوازي الكاميرا التي ترصد المشهد كما هو، ببؤسه وظلمه ووحشيته، دون ميكياج أو تزويق.


في كتابه غير المترجم "الهولوكوستات الفيكتورية المتأخرة: مجاعات النينيو وصناعة العالم الثالث"Late Victorian Holocausts: El Niño Famines and the Making of the Third World يتحدث مايك ديفيس Mike Davis عما فعلته بريطانيا -العظمى آنذاك- في شبه القارة الهندية وسياساتها التي أدت لمقتل ما بين خمسة إلى ثمانية ملايين إنسان، في واحدة من الإبادات الشنيعة في التاريخ الحديث، والتي لا يرد ذكرها إلا على استحياء، لأنها مرتبطة بأحد الأطراف المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، ولم ترتبط بالنازية الخاسرة أو العثمانية البائدة أو السوفييتية المواجهة للغرب ندا لند، وإحدى القوى التي ارتبطت بالاستعمار الوحشي منذ قرون حتى أنتجت آخر المسوخ الاستيطانية الإبادية، الكيان الصهيوني. في كتابه الضخم الصادر عام 2001م، والذي يناهز الخسمائة صفحة يرصد المؤرخ الاجتماعي الأمريكي ديفيس المجاعات التي لم تكن نتاج كوارث طبيعية لا دخل للإنسان بها او لا سبيل لمواجهتها؛ بل هي نتاج مباشر للسياسات التي انتهجتها الإمبراطورية الاستعمارية في تلك الفترة. فلم تكن المجاعة التي قضت على الناس بسبب عدم وجود الغذاء أو توفره، بل كان يتم تصديره للأسواق العالمية بكميات مهولة، في حين تُرك الفقراء الضعفاء فريسة للموت المحتوم أمام الضربة الكاسحة ليد السوق الخفية، أو للسبب الوهمي الآخر "حرية التجارة"، بل كان موتا وإبادة تم هندستهما باحتراف قاتل متسلسل لا تصل إليه الأيدي ولا القيود. ففي فترة المجاعة التي ضربت الهند بين العامين 1876 والعام 1878، لم توقف حكومة الاستعمار تصدير القمح والحبوب من الهند إلى بريطانيا!، بل إنها لم تكتف بهذا الأمر فحسب، فقد استمرت في عمليات التصدير وكأن شيئا لم يكن، في الوقت الذي ضرب الجفاف ضربته وانهارت المحاصيل بشكل كارثي. ففي الوقت الذي يموت فيه المضهدون جوعا وهم يرون أرضهم تغتصب وتسرق خيراتها، كان السارق يترقب ما سيحصل عليه من عوائد لمسروقاته، في عملية تتزيا بزي "التجارة" وفقا لقانون القوي المهيمن.


وكما يحدث اليوم في غزة تماما، وفقا لتصريحات رئيس الاحتلال "حماس تسرق المساعدات" ولتصريحات وزراء حكومته المتطرفة التي تربط الأمر بهلاوس دينية وتنسب المقتلة إلى الإله ذاته؛ كانت التبريرات الاستعمارية مشابهة لذلك. فكان التبرير الديني والحضاري حاضرا بقوة في شرعنة المجاعة التي حصدت أرواح الأبرياء باعتبارها ابتلاء إلهي وحكمة لا يعرف سرها الإنسان الضعيف محدود التفكير. أما العلم الذي كان صولجان التبرير الحديث، ومِشرط الحقائق المشوهة بيد السلطة؛ فقد ادعى أن التدخل لوقف هذه المجاعة سيسبب ضررا اقتصاديا، وسينهار السوق إن حدث التدخل المأمول من حكومة الاستعمار، ولم يكن -بالطبع- هدف بريطانيا الأرباح الهائلة والمحافظة على صادرات الإمبراطورية "حامية الحريات" في أسقاع المعمورة. فلم يكن هدف هذه الإمبراطورية –وما شابهها في حينه، وما تلاها- الاستفادة من المستعمرات ونهب ثرواتها وتصديرها إلى أوروبا -والعياذ بالله- بل كان ذلك لزاما في سبيل تشكيل النظام العالمي الجديد والاقتصاد الذي سيحمل سفينة الشعوب إلى الرخاء والحرية -وكأن الشعوب الفقيرة ترسن في أغلال ذاتها!- والغد المشرق.


في ذلك الوقت العصيب، كان لزاما أن تظهر مزامير عالية تطمس أنَّات الجائعين وصراخهم، أو بعبارة أصح المجوّعين الذين ينتظرون مصيرهم المحتوم بقلة حيلة، وفقدان كامل للقرار أو القوة أو أي سبيل آخر ينجيهم مما يرونه رأي العين، الموت الوشيك. وفي استطراد سريع، نحن ننسى أحيانا أن النظام الديمقراطي الذي كان ينبغي أن يكون في خدمة الشعب، تحول إلى طريقة أخرى لتركيز السلطة والنفوذ في يد ثلة قليلة تبقى ثابتة حتى وإن تغيرت الدمية التي يتم تصديرها للمشهد باعتباره "المنتخب" و"ممثل الشعب"، والتي تكون في الغالب -أي هذه الثلة- أصحاب الأموال وعصب السوق في الدولة. لذلك كان ولا يزال الخوف والخشية من نهضة الشعوب في مواجهة قادتها الذي يخدمون أجندة لوبيات خارجية تخدم مصالحهم الذاتية لا مصلحة الوطن أو الدولة؛ خوفا يستدعي التنفيس. 


ففي الوقت الذي كاد يعلو فيه صوت المعذبين في الأرض، انبرى تشارلز ديكنز كما وثق ذلك كل من البروفيسورة غريس مور Grace Moore في كتابها Dickens and Empire "ديكنز والإمبراطورية:خطابات الطبقة والعرق والاستعمار في أعمال تشارلز ديكنز" المنشور عام 2004، والبروفيسور مايكل سليتر Michael Slater  في سيرته الذاتية الموسعة عن تشارلز ديكنز أعماله وحياته؛ ليكتب رسالة إلى أنجيلا بوردت-كوتس (Angela Burdett-Coutts) مؤرخة بشهر يونيو من العام 1857 يقول فيها بأنه يتمنى لو أنه كان القائد الأعلى في الهند، ليري الهنود بأن أول ما كان سيفعله بحق هذا "العِرق الشرقي" -وفق عبارته- إبادتهم من على هذه الأرض!.

"I wish I were Commander in Chief in India. The first thing I would do to strike that Oriental race with amazement should be to proclaim to them in their language, that I considered my holding that appointment by the leave of God, to mean that I should do my utmost to exterminate the Race upon whom the stain of the late cruelties rested; and that I was there for that purpose and no other, and was now proceeding, with all convenient dispatch and merciful swiftness of execution, to blot it out of mankind and raze it off the face of the earth" (Slater, M.(2012).Charles Dickens)

 

هذا المصلح الاجتماعي الذي كتب روائع أدبية خالدة مثل أوليفر تويست وقصة مدينتين، كان مصلحا اجتماعيا ومساندا للفقراء في حدود وطنه متحدثا باسمهم وكاشفا لمعاناتهم، أما أولئك "الشرقيون" فلا يستحقون سوى الإبادة لوقوفهم ضد حكومته التي تستعمرهم وتنهب خيرات بلدهم، فهم إرهابيون ومخربون بدفاعهم عن بلدهم ضد التاج البريطاني. فصاحب الضمير الإنساني المرهف، يعمل وفقا للمكان والعِرق الذي يتعرض للاضطهاد، ووفقا لما يتم تعريفه بأنه اضطهاد؛ أما حين يتعلق الأمر بصاحب السلطة الذي ينضوي تحت لوائه، فإن أفعاله تلك ليست إلا تأديبا ومحاولة لنشر الحضارة والرقي والتطور للأعراق "الشرقية" خصوصا، تلك المتخلفة التي لا تعي معنى الحضارة وإحناء الظهر للمُستَعمِر.


لا بد من تنفيس الغضب المحتقن للشعوب في الداخل بأصوات تبدو وكأنها مناهضة لأصحاب السلطة والنفوذ، بينما هي في الحقيقة قطعة من المسننات التي سيتم تبديلها بعد أن تتآكل ليستمر المحرك في العمل كما ينبغي لأصحاب السلطة واللوبي المنتفع. هكذا ينبري البريطاني الآخر بيرس مورغان الذي كان الصوت غير الرسمي للإبادة في أول الأمر، ليبدو الآن وقد امتلأت شوارع المملكة المتحدة بالمظاهرات وبدأت الرواية الصهيونية تفقد بريقها وانجلى عنها الغشاء، وصارت الغالبية من الشباب داعمة لفلسطين والفلسطينيين العظمى -وفقا للإحصائيات الأمريكية والأوربية الرسمية- في دفاعهم عن أرضهم ووطنهم ومقدساتهم؛ بأنه الصوت الذي ينتقد الاحتلال ومنهجيته المفضوحة في الإبادة الجارية على الهواء مباشرة!، في مشهد مقزز يكشف إعادة تموضعه داخل المنظومة التي ستستمر في نهجها لا محالة، ولكنه على الأقل سيمثل مخرج الطوارئ وآلية تنفيس للشعب عن غضبه واحتقانه تجاه سياسة حكومته المعلنة والصريحة في دعم الإبادة، دون أن يؤدي ذلك الغضب إلى الانفجار الذي سيجرف النخب الحالية المنتفعة من النظام القائم. فهل ستعي الشعوب يوما ما يمثله هؤلاء المنتفعون الذاتيون، والمشرعون لأبشع جريمة يرتكبها إنسان "القتل" وإبادة أخيه الإنسان، ليوقفوا أنهار الدم المفزعة؟ أم أن "العِرق الشرقي" يستدعي مزيدا من "الجحيم" كما في تغريدة عالم النفس الكندي-الأمريكي جوردان بيترسون في دعمه لجرائم الاحتلال في بداية عدوانه؟ وبطبيعة الحال، لا يتوقف الأمر عند تشارلز ديكنز، أو ويليام هنتر صاحب كتاب "The Indian Musalmans" الذي انتقد التهميش -السحق بكلمة أدق- الاقتصادي والاجتماعي الذي عاشه الهنود تحت الاستعمار في صورة تبدو كما لو أنها نقد لحكومته التي يتبعها، وما هي إلا مدة من الزمن حتى صار الصوت المصلح تُرسا من أتراس تثبيت الاستعمار في الهند ذاتها، وقد كافأه التاج بتوليته منصب المدير العام للتعليم في المستعمرة الهندية وهو أول من تولى ذلك المنصب. فتم استعمال كتابه الذي بدا وكأن هدفه النقد والإصلاح، إلى جعله خارطة الطريق والكتالوج الذي ينتج نخبا مثقفة تخدم المُستَعْمِر وتطيعه وتروِّض الثائرين في وجهه، المقاومين له. وما أكثر الذين امتطوا الثورات لنيل المكاسب الشخصية والمناصب العملية فيما بعد، وضمن جهاز ونظام الثائرين في وجهه ذاتِهِ.


وفي استطراد سريع، يذكرني هذا الأمر بقراءتي لسيرة مهاتما غاندي التي كتبها بيده، والذي أصابني بالذهول في طواعيته ومساندته وعلاجه وتفانيه وإخلاصه في خدمة البريطانيين في بلده وفي جنوب إفريقيا، قبل أن ينقلب إلى رمز التحرير ضد المُستَعْمِر. وكذلك بما تمثله السلطة الفلسطينية بعد أوسلو وبعد الجنرال الأمريكي كيث دايتون الذي كانت مهمته التي نجح فيها هي إعادة بناء الأجهزة الأمنية الفلسطينية بعد انتفاضة الأقصى فيما يعرف ب"التنسيق الأمني"؛ وللقارئ أن يتخيل أن هنالك تنسيقا بين المُحتَلِّ والرازح تحت الاحتلال!. لم يكن بيرس مورغان ولا توماس فريدمان ولا جوردان بيترسون ولا غيرهم من النخب الثقافية والإعلامية والأكاديمية قاعدة شاذة في الهيمنة على الشعوب المقهورة من مدخل النقد اللطيف و"البَنّّاء" الذي سيرفع من مكانة "دول العالم الثالث" ويرفع من نبخها؛ بل كانت الأساس الذي بنت عليه إمبراطوريات النهب شرعيتها التي ستقاتل في استمرارها قدر الإمكان. وكي لا تبدو القفزة هائلة من ديكنز إلى مورغان، فربما يجرب علينا أن نقرأ تجربة الجزائريين مع الاحتلال الفرنسي، والفيتناميين مع الأمريكان، وما فعلته بريطانيا في بلدنا ذاته في الأمس القريب. وفي هذا الشأن بالذات أحيل القارئ إلى "موسوعة عمان الوثائق السرية" وكتب مالك بن نبي التي كتبها إبّان الاستعمار ذاته، وبعد التحرر منه، والذي أنتج مصطلح "القابلية للاستعمار". كما أنه لا يمكن بحال أن نغفل أحد أهم الأصوات الحية التي شرَّحت السرطان الأمريكي والصهيوني والإمبريالي الغربي وتدفع أثمانا لذلك، أعني نعوم تشومسكي. وكي لا تبدو خاتمة المقالة كأنها اقتراحات لكتب وترشيحات طويلة؛ فإن المقصود هو معرفة العدو ومداخله، كي لا نستيقظ يوما وندرك بأن الذي استضفناه في مجلسنا لم يكن السائح المغامر البريء، بل كان لورنس العرب في وجهه الجديد!.

 




بعض المصادر والمراجع:

Davis, M. (2001). Late Victorian Holocausts: El Niño Famines and the Making of the Third World. Verso.


 https://www.newyorker.com/magazine/2015/06/29/the-great-divide-books-dalrymple


Slater, M. (2012). Charles Dickens. Yale University Press. p. 384.


Moore, G. (2004). Dickens and Empire: Discourses of Class, Race and Colonialism in the Works of Charles Dickens. Aldershot: Ashgate. p. 112.


 https://youtu.be/R5W4o04Z5lA?feature=shared


Hunter, W. W. (1871). The Indian Musalmans. Trübner & Co.


https://x.com/jordanbpeterson/status/1710622315816337454?lang=ar

  

نسخة الجريدة

 https://www.omandaily.om/article/1185207


تعليقات

المشاركات الشائعة