الأخلاق.. إعادة نظر | 25 سبتمبر 2025

الأخلاق.. إعادة نظر

تبرز بعض الكلمات باعتبارها إشارة لتأطير الإنسان الناطقِ بها، المتحدثِ عنها، والمشيرِ إليها. فتغدو في بيئةٍ ما مدعاةً للتأملِ والتفكرِ والاعتبار والمكانة السامقة العالية، وفي أخرى، لا تعدو كونها تأطيرا لذاتِ الشخص واختزالا له في زاوية ضيقة يُحاسَبُ عليها ويُتَّهَمُ بها ويُخاصِمُ أو يُصالِحُ وفقا لها. ومن هذه المصطلحات، الأخلاق.

فالحديث عن الأخلاق حين يُتَحَدث به خارج نطاق الفلسفة، يتم اعتباره محض تنظير لا يسمن ولا يغني من ثقافةٍ أو قيمة، بينما يُعلَى شأوُهُ ويُنظَرُ إلى المتحدث عنه في ذات الإطار الفلسفي نظرةً مختلفةً تشي بشيءٍ من التناقضِ تارةً، ومن التحيزاتِ تارة أخرى.

تتصدر كلمةُ الأخلاقِ الخطابَ الوعظيَ في كثيرٍ من المجتمعات العربية والإسلامية، ونظرا لأن الأخلاق المقصودة في هذا الخطاب هي تلك الأخلاق المرقونةُ في كتب الفقه والأدب والسيرة النبوية؛ فقد ارتبطت ارتباطا شرطيا عند كثير من القراء والمستمعين -في المحاضرات والخطب حتى العلمية- بجماعة المتدينين (المتدينين في المظهر الخارجي، بغض النظر عن الجوهر) سواء أطبَّقُوها أم لم يفعلوا، وبالتالي لا يُؤخَذُ الكلام ويُنقَدُ باعتباره كلاما محضا، وإنما للكاتبِ لَهُ، الناطق به، والمُتحدث عنه. ولكن، هل كان الأمر هكذا دوما؟.

إذا ما عدنا إلى الوراء قليلا، نجد في بيئتنا العمانية -على سبيل المثال- كبار السنِّ يتحدثون عن الأخلاق القديمة، وعن تغيُّر طباع الناس وضِيق أنفسهم كلما تقدم الوقت ومرت السنوات. ويكون المتحدثُ منهم أحدا لا يملك شهادة أكاديمية، أو تخصصا علميا، ولكنه قِمَّة في الأخلاق والمعاني الشريفة، فماذا حدث؟. إن التَّغَيُّرَ الذي حَدَثَ حقا، لم يكن من جهة البيئة التي نشأنا فيها والطريقة التي ترعرعنا وكبرنا عليها، وإنما جاءت من باب الدَّرس المُوَجَّه، والمعرفةَ المحصورةَ في كتبِ الغربيين. وفي الحقيقة، فإنَّ الفرق واسع شاسع تماما بين الأخلاق عند العربي، والأخلاق عند الغربي. فالعربي يعيش بأخلاقه، ويتحدث عنها في أشعاره وكتبه وآثاره، ويحضُّ عليها بنيه في حياته وفي وصيتهِ حالَ وفاتِهِ، وتراهُ يذكرُ المرءَ أو قومَهُ بأنهم ذوو أخلاق أو أنَّهم على النقيضِ من ذلك.

لأجلِ هذا نجدُ أشعارهم منذ عصر ما يُعرَفُ بالجاهلية إلى وقتٍ قريب، مليئةٍ بالتَّغَنِّي بالأخلاقِ كالشجاعةِ، والكرمِ، والوفاءِ، والصدق، وغيرها من الصفات الحسنة والأخلاق الحميدة التي يَحُضُّونَ بعضهم بعضا على التَّخَلُّقِ بها، والتَّزيي بزيِّها. وقد أثبتَ الإسلامُ أخلاقَ العربِ الرفيعةِ وبنى عليها، ويشهدُ على ذلك الحديث النبوي "إنما بعثت لأُتَمِّمَ مكارمَ الأخلاق"، فالتتميم لا يكونُ لشيءٍ كانَ مفقودا؛ وإنما لشيءٍ موجود معلوم يُزاد فيه، ويُبنى عليه. فالأخلاق عند العربي إذن سلوك يومي، لا يفعله لرقيب يأمره، أو موعظة يسمعها، أو تجربة يُجَرِّبُ صوابها وخطأها؛ بل يتمثَّلُها تَمَثُّلًا في حياته اليومية الطبيعية. لذلك تجد العجائزَ والكبارَ يفعلونَ من الأشياء ما يجعلنا ننظر إليها بعين الإكبار والإعجاب، بينما هي عندهم من السجايا التي تشرَّبُوها فطفحت في تعاملاتهم وحياتهم عفوًا صفوًا بغيرِ تَكَلُّفٍ أو تَصَنُّع.

وعلى النقيضِ من هذا، كان ارتباط الغربي بالأخلاق ارتباطا ذهنيا منذ القدم، فكتب عنها أرسطو -النظير الثقافي التاريخي للجاهليين- وتبعه في ذلك التابعون من فلاسفة وأدباء وغيرهم ممن هم في السلك الثقافي والأكاديمي. والفرق بين الفلسفةِ والأنموذج العمليِّ بسيطٌ يسير، ففي كرة القدم مثلا هناك المدرب الإسباني الشهير بيب غوارديولا الذي يمكن الاستشهاد به في السياق المعرفة النظرية الرصينة بخطط وتكتيكات كرة القدم، ولكن الأسطورة الأرجنتينية ليونيل ميسي الذي كان تحت إمرة غوارديولا كان يفعل فوق ما يطلبه غوارديولا -النظري- ويمتّع المشاهد بسلاسة لعبه الذي يذكرنا بسجايا العجائز والكبار التي تخرج منهم على الطبيعة ودون تكلّف، فهو التطبيق العملي لمهارات كرة القدم وأساليب لعبها الساحرة الفاتنة.

والفرق بين العملي والنظري شاسع هائل، فالعملي سلوك يحياه المرء ويعيش به، بينما النظري كلمات وأفكار مجردة تبحث في المفاهيم والماهية. فبينما تحمي الأخلاق الفرد والقبيلة وتضمن عقدا اجتماعيا متماسكا يحضّ عليه القادة ورؤساء وشيوخ العشائر-قديما- ثم الملوك والسلاطين، نجدها عند الغربي سؤالا فلسفيا يبحث في ماهيتها ولماذا نفعلها؟ ولأجل ماذا؟، فهي مرتبطة بالمنفعة والمصلحة المباشرة، وهي النظرة التي حاول كثير من الباحثين -المستشرقين والمتأثرين بهم خصوصا- حصرها وإسقاطها على العرب. فيتم التقليل من الكرم والجود -مثلا- بقولهم أن العربي يعلي من شأن تلك الخصلة وذلك الفعل كي لا يجوع حين يعضّه الدهر، وتنوبه النوائب؛ ولكن أليس من الحفاظ على الشحيح أن يُشَحَّ به؟ أليس الأولى -باعتبار نظرتهم تلك- أن يضِنَّ العربي بقُوتِهِ لنفسهِ وعياله في تلك الصحراء القاسية، والقحطِ الشديد؟.

إن من أحسن الكتب التي تحدثت عنها مرارا في هذا السياق، هو كتاب مسكويه الذي يرد اسمه عند بعض المحققين بإضافة "ابن" إلى اسمه (ابن مسكويه). ففي كتابه الفلسفي "تهذيب الأخلاق"، نجد الفيلسوفَ العبقريَّ يربط بين النظريِّ والسلوكي في كتابه، فلم يكن مجرد ناقل لأقوال الفلاسفة القدماء فحسب، بل ناقدا لها، مضيفا عليها، مُبدِعًا فيها، وزائدا عليها. ولأننا تأثَّرنا بالتطور التكنولوجي الغربي، وتأثرنا بنظرة المُهَيمَنِ عليه للمُهَيْمِن؛ فقد انبرى شطر ليس بالقليل لحمل الأسلحة الثقافية وحشدها، لا لمواجهة القوى المهيمنة ونقدها والاستفادة من جَيِّدِها ونبذِ مُنْحَطِّها ورديئها، بل للدفاع عنها والحضِّ على أخذِ كلِّ شيءٍ منها، والنظرِ إلى الذاتِ نظرةَ المهزومِ الخائبِ الذي لا يلوي على شيءٍ، والفاقدِ للحيلةِ والمصير.

وإن المراقب الحصيف يلاحظ التغير الذي يطرأ على التفكير الجمعي للمجتمعات من المؤشرات والدلائل الصغيرة. فتجاوز خط طويل من السيارات الملتزمة بخط سيرها وانتظارها لإشارة المرور -إشارات القرم أنموذجا- والدخول أمام السيارات التي قضى سائقوها الوقت في انتظار دورهم احتراما للقوانين والأنظمة، وعملا بالأخلاق؛ لا يدل سوى على تغلغل الأنانية واعتبار الفاعل لذلك الفعل -تجاوز المنتظرين الملتزمين بخط السير- نَفْسِهِ أفضلَ وأحسنَ من الناس، وهي صفة قميئة قبيحة لا تَصدُرُ إلّا عن سيءِّ الخُلُقِ. أو كالذي يرمي القمامة في الطرقات والأرصفة وفي كل مكان يكون فيه -إلا في مواضعها التي وضعت لأجلها- أو الذي يأكل مال الأيتام ثم يحدثك عن أنَّ في ذلك تنميةً لمالهم وصلاحا لحالهم ثم يأتي إليك لينصحك ويحدثك عن الحلال والحرام، والخيرِ والشرِّ؛ كلُّ هذه الأفعال السيئة لها مبرراتها النظرية التجريدية لو كان الأمر متعلقا بالتجريد فحسب، لكننا إن نظرنا إلى الأخلاق باعتبارها أسلوبَ حياةٍ ونهجًا نعيش به، لكُنَّا ومجتمعنا من أفضل الخلق على البسيطة.

ومن أدلِّ الدلائلِ على التغيرِ الطارئ في المجتمع، الشواطئُ الجميلة لعماننا؛ فلم أكن أرى قبل سنوات ما أراه من قمامة وحطب مكسور وزجاج منثور في تلك الرمال البهيّة البكر، كما أراه اليوم. فماذا تغير فينا؟ وهل هي وسائل التواصل الاجتماعي التي زادت من المصلحة الفردية وأعلت شأنها؟ أم أن هنالك أسبابا أخرى؟. وليست مقالتي هذه للوعظ عن الأخلاق والتذكير بها، لكنها دعوة للتأمل فيما تغير فينا، وأمنية في أن نعيد نظرتنا لأنفسنا أولا ولما ينبغي أن نكون عليه. ومهما يكن من حجج وبراهين على صحة الطريقين -النظري والعملي- فليس المقصود أن بينهما تعارضا وتنافرا؛ بل أن ننظر إليهما باعتبارهما مكملين لأحدهما، وأن نتذكر أن الهدف الحقيقي من النظري هو تطبيقه العملي، لا التشدق النظري بدلائله وبراهينه، وعسى أن تعود الأخلاق يوما طريقة حياة ونمط عيش، لا فكرةً في كتاب، أو عِبرةً في خطاب. وكي يتحقق ذلك، ينبغي أن يكون الأمر جزءً من كُلٍّ يعالج نمط تفكيرنا وسُبُلَ تحررنا من القابلية للاستعمار والتحرر من عقلية المستضعف المقهور. وهذا الأمر يبدأ منا كأفراد، ثم يجري على باقي الأمور، من أخلاق، معرفة، علم نفس، ابتكار، تكنولوجيا، وغيرها من المجالات.

 

الأخلاق.. إعادة نظر https://www.omandaily.om/article/1186890

 

تعليقات

المشاركات الشائعة