دروس اليدِ المُضرَّجة | 4 سبتمبر 2025
دروس اليدِ المُضرَّجة
ها قد بدأ العام
الجديد، وحمل أبناؤنا وإخوتنا حقائب العلم وتأبطوا متونه، وفي كل عام يمضي، وآخر يقدُم؛
نتساءل، ما جدوى التعليم؟ وإن كان للتعليم دور في البناء، فأي بناء سيكون؟ وهل
هناك فرصة للتحسين والالتفات إلى ما يمكن تطويره والبناء عليه، أو استحداثه
والإتيان به. وكما هو معلوم، فإن النشء كلمة تطلق على الأحداث من الأطفال، وفي
لسان العرب لابن منظور "ونَشَأَ السحابُ نَشْأً ونُشُوءاً: ارتفع وبَدَا،
وذلك في أَوّل ما يَبْدأُ. ولهذا السحاب نَشْءٌ حَسَنٌ، يعني أَوَّل ظهوره.
الأَصمعي: خرج السحابُ له نَشْءٌ حَسَنٌ وخَرج له خُروجٌ حسن، وذلك
أَوَّلَ ما يَنْشَأُ، وأَنشد: إِذا هَمَّ
بالإِقْلاعِ هَمَّتْ به الصَّبا*فَعاقَبَ نَشْءٌ بَعْدَها وخُروجُ
وقيل: النَّشْءُ أَن تَرى السَّحابَ كالـمُلاء الـمَنْشُور. والنَّشْءُ
والنَّشِيءُ: أَوَّلُ ما يَنْشَأُ من السحاب ويَرْتَفِعُ، وقد أَنْشَأَه اللّهُ".
فهو كذلك للأطفال، أول ما يرتفع من مرحلة عدم التمييز إلى بداية التلقي والارتقاء
في المدارك والفهم. وقد خص العرب هذا الوقت وهذه المرحلة شطرا كبيرا من أشعارهم
وأمثالهم وحِكَمهم ومقالاتهم، فقد عنوا أيما عناية بالنشء وتربيته وتنميته التنمية
السليمة القويمة.
شئنا أم أبينا، فنحن نعيش اليوم مرحلة انهيار نظام عالمي قائم، وبزوغ نظام
جديد لم تتكشف معالمه بعد، ولا يسعنا سوى الترقب، أكان الانهيار أو الصعود وشيكا
أم بعيدا. لكن ما يحدث فعليا على أرض الواقع، أن الخاسر يتشبث بفرصه، والفائز يَتحَيَّنُ
ذاتَ تلك الفرص وينتهزها وينهبها بطريقة فجة في أحيان كثيرة. وهي مرحلة استقطاب
هائلة ومخيفة، ففيما تبدو بعض الوسائل جافة وصريحة وصلدة، تظل الأخرى متخفية ولدنة.
وهنا يصير لزاما أن نلتفت إلى الوسائل المانعة للانفلات أو الفراغ الذي يعمل عليه
المُستَقطِب لهؤلاء الصغار خصوصا، ولمن لا يجد في نفسه القوة والوعي لإدراك
المخاطر التي تبدو صغيرة في البدء، ولكن معظم النار من مستصغر الشرر.
تمثل حرب الإبادة الجارية على الغزيين مآساة حقيقية، ودرسا لا يمكن نسيانه
أو إغفاله أو إغماض العينين عنه. وسواء أحب أحدنا المقاومة وناصرها، أو كرهها
وناصبها العداء؛ فإن الدروس العملية لا تعترف بالمحبة أو البغض، بل بالوقائع
الجارية على أرض الواقع. في السادس عشر من أكتوبر الماضي، تم اغتيال يحيى السنوار
زعيم حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، وتوالت بعد اغتياله الصور ومقاطع
الفيديو الخاصة به من الجانبين؛ الاحتلال والمقاومة على السواء. ومن المشاهد
الأثيرة التي حركت النفوس وألهبتها، المقطع الذي يردد فيه بيت أمير الشعراء أحمد
شوقي من قصيدته الشهيرة "سلام من صبا بردى أرق" والذي تحدثنا عنه في
مقالة سابقة، والبيت هو "وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ*بِكُلِّ يَدٍ
مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ". وقد ذكرني بذلك بودكاست حواري مع الأكاديمي الموريتاني
محمد المختار الشنقيطي استمعت إليه سابقا، ذكر فيه الشنقيطيُّ أنَّ الصينيين
حريصون على قراءة وحفظ كتاب "فن الحرب" للفيلسوف الصيني صن تزو، بل إن
الجنود إذا سمعوا شطرا من الكتاب، بادروا لإكمال الشطر الناقص منه، لشدة حرصهم
عليه وعلى ما يمثله لهم ولهويتهم.
إن الهوية شيء بالغ الأهمية والتعقيد في عالم اليوم، فالهوية السليمة هي ما
يحمي أبناءنا من الاستقطاب سواء لمؤسسات أو جماعات أو حتى لأفكار لا تمت إلينا
بصلة لا من قريب ولا بعيد. ولأنها كذلك، ينبغي أن يعاد النظر في تراثنا نظرة القوي
المعتز بما فيه بتطبيقه واقعا، لا بالتغني بما فيه والركون إلى ذكراه كما نتذكر
الذكريات والملاحم الأسطورية. ما علاقة هذا بحركات المقاومة إذن؟. إن علاقتها أن
أولئك المقاومين لا يرون العالم من منطلق الربح والخسارة العددية التي تحسم
المعركة كما لو كانت معركة بيانات أو أرقام، بل يرونها عقيدةً وطريقةَ حياة. ولا
يمكن بحال أن يظل الإنسان صابرا ثابتا يقف في وجه القاتل المتفوق عليه عدة وعتادا،
يواجهه ببسالة وبأس، إلا أن يكون متشرِّبا لمبادئ لا يمكن لذلك العدو أن يغتالها
حتى إن اغتال الأجساد.
واحدة من سبل ترسيخ الهوية وترسيخ الفكر لدى النشء، أن يتم تحفيظهم
وتعليمهم معنى الوطن، التراث، المستقبل، العائلة، ومعرفة أنفسهم. وواحدة من أسوأ
الكوارث التي تحصل اليوم، أن لا يشعر المرء بالانتماء إلى الوطن إلا بما يجنيه من
ذلك الوطن من مال أو منصب أو مكسب. لأجل ذلك يسهل اختراق الشعوب التي لا تدرك من
هي، وما تمثله لوطنها، وما يمثله ذلك الوطن لها. فالوطن ليس شخوصا تحكم، ولا
مؤسسات تنظم حياة الناس، ولا شيوخا وأعيانا ورؤوسا؛ بل هو الأرض والعِرض والذاكرة
والتراب والسماء والبحر المطل على العالم، هو فكرة وعقيدة وجسد لا يهرم ولا يفنى
بفنائنا البشري المحتوم.
وعلى سبيل صن تزو وقصة الصينيين مع
كتابه واحتفائهم به، فماذا نعرف حقا عن الناس الفارقين في تاريخنا؟ سواء أكان
التاريخ العربي والإسلامي، أم التاريخ العماني خصوصا؟. ثم هل نبحث في الوسائل التي
مكنت الأجداد من التطور والتقدم والتحرر؟ أم أننا ننظر إلى النتائج وحدها دون
الأسباب؟. فمن طرد البرتغاليين؟ ومن قاتل الفرس قديما؟ ومن كان رائدا في البحر
والنجوم وعلومه، والطب والفلك وفنونه؟ وما هي الأسباب التي أحدثت النهوض، والأسباب
التي أدت إلى التراجع أو السقوط في غياهب الأسى والضعف والظلمات؟.
إذا ما حملنا مسألة النشء باعتبارها مشروعا وطنيا حقيقيا يحمل الوطن إلى
مراتب العُلا والرفعة، واستعانت الحكومة بأكاديميين ومثقفين وباحثين عمانيين
يحملون هم المسألة باعتبارها شيئا مفصليا يحدد مسارات عمان المستقبلية، وليست مجرد
وظيفة روتينية تؤدَّى مقابل مرتب شهري؛ فإننا لا محالة سنصنع جيلا يعرف نفسه،
ويعرف طريقه ودربه، ولن يغريه أحد أو يعبث بعقله أحد. وتكون الاستعانة بهم لوضع
الأساسات التي تعالج موضوع الهوية العمانية باستنباط النماذج المضيئة من الفارقين
في التاريخ الفكري والعلمي والعسكري المقاوم والثقافي السابق لعصره وأوانه. ولنا
في قصة آدم راين المراهق الذي انتحر بمساعدة "شات جي بي تي" ChatGPT شاهد ودليل، في الكيفية التي
يمكن أن تؤدي هذه الوسائل بنا إلى الكمال أو النقصان!. ومن يتهيب التاريخ باعتباره
مليئا بالدم والجراح، فلن يتعلم منه ولن يستقي منه العِبَر، أوليس على الذي يريد جني
العسل، أن يصبر على إبر النحل؟. وكما أن على المرء أن يخشى من المساوئ والمخاوف
المشروعة، فإنه لا يمكن أن ينسى أو يغفل ذكر المحاسن والنقاط التي يمكن البناء
عليها.


أحسنت
ردحذفأحسن الله إليك 🌹
حذف