كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لضياء الدين بن الأثير

فرغت بحمدالله وتوفيقه من قراءة كتاب عذب فريد ، سائع لذيذ.

وهو كتاب المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر لضياء الدين بن الأثير.

قد يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى أن هذا الكتاب في الأمثال المشهورة السائرة المتداولة وشرحها ، ولكنه في حقيقته مثال يسير أمام من يبتغي صناعة التأليف الجيد أكان المؤلف ممن يكتبون النثر أو ممن امتاز بالشعر. وهو كتاب بديع ظريف ، و منهاج ينسج على منواله من ابتغى الكمال في تأليفه والحلاوة في لفظه وتصريفه ، ولا غنى لمن تجشم طريق الكتابة من أن يمتح من معينه الخصب ومورده العذب ، فيرِدَ التأليفَ من موارده العذبة طالبا متّبِعا ، ويصدُرَ عنه عَلَما متَّبّعا.

وهو في علم البيان كما ذكر ذلك مبتدِعُهُ ، وقد بناه على مقدمة ومقالتين ؛ "فالمقدمة تشتمل على على أصول علم البيان ، والمقالتان تشتملان على فروعه ، فالأولى : في الصناعة اللفظية ، والثانية : في الصناعة المعنوية." وقد أتى المؤلف بظاهر هذا العلم دون خافيه ، "إذ الغرضُ إنما هو الحصول على تعليم الكلم التي بها تنظم العقود وترصّع ، وتُخلب العقول فتُخدع. وذلك شيء تُحيل عليه الخواطر ، لا تنطق به الدفاتر."

"واعلم أيها الناظر في كتابي أن مدار علم البيان على حاكم الذوق السليم ، الذي هو أنفع من ذوق التعليم" وأرى أن هذا الأمر ربما يصلح في زمن المؤلف ، مع أنني أشك في ذلك كثيرا ؛ فلو كان الذوق السليمُ سليمًا ، لما احتيج إلى إفراد علم جديد وهو علم النحو منذ القرن الهجري الأول ، ولما احتيج كذلك إلى أن يؤلف المؤلف كتابه هذا بعد ستة قرون. ولكنني أرى أن الذوق إنما هو بذرة في المرء موجودة ، فمن سقاها بالقراءة والمتابعة لأهل اللغة والفصاحة مع إدامة النظر وإدمان القراءة والفِكَر في كتب الفصاحة والبيان قبل القواعد والأحكام فتلك بذرة سليمة نمت وازدهت ؛ أما من أهملها ونسيها واتخذها وراءه ظِهريًّا ، فستموت البذرة من فورها ، ومن ماتت تلك البذرة وانطفأت جذوتها فيه ، فإن إحياءها ليس مستحيلا ، ولكنه مما يُقال فيه "دونه خرق القتاد".

ثم إن المؤلف يشير وينبه إلى دور القارئ/المتعلم في كيفية الإفادة من الكتاب على الطريقة المثلى فيقول: "فخذ من هذا الكتاب ما أعطاك ، واستنبط بإدمانك ما أخطاك. وما مثلي فيما مهّدته لك من هذه الطريق إلا كمن طبع سيفا ، ووضعه في يمينك لتقاتل به ، وليس عليه أن يخلق لك قلبا ، فإنَّ حملَ النصال غيرُ مباشرة القتال." وكذلك الأمر في كل العلوم والكتب ، فإن إدمان النظر في الكتب مرة بعد مرة ، يغّذي الذوق والسليم ويصقله ، فيصير صاحبه قارئا ناقدا ، يمحّص الغث من السمين ، ويدحض الشك باليقين ، فيبلغ مآربه جميعا ولو بعد حين.

وهو يبتدئ بذكر أهمية علم البيان ، مع تنويه بكتب السابقين الجيدة -وهو أمر سيرافق القارئ طوال رحلته في هذا الكتاب- وسيلاحظ القارئ تكرار بعض الأسماء في الكتاب سواءا بالنقد أو بالإشادة أو بالهدم والنقض.

وأرى أن هذا الفعل من ابن الأثير -وإن رآه البعض كفرا وجحدا منه بأرباب الفصاحة ممن تقدموه- ناتج ونابع من تأثر المؤلف بتلك الكتب وهي شهادة لها ولمؤلفيها من ابن الأثير كذلك بمقامها العالي وبمنزلة مؤلفيها السامقة وإن ظهر الأمر على غير ذلك. فلو لم تكن لتلك الكتب أهمية تذكر ولا قيمة تعتبر ، لما ذكرها ابن الأثير مرة بعد مرة ، فصارت كالأنجم التي يشير إليها ببوصلته. وابن الأثير قبل كل شيء قارئ فذ ، فهو يمحّص الجيد من الرديء -وإن كان في بعض ما ذهب إليه نظر- دون اعتبار إلى القائل ، بل الحَكَمُ عنده كما يؤكد ويكرر دائما هو الحُسن في الكتابة ، الحُسن وحده.

سيجد القارئ خلال رحلته آراء ابن الأثير اللغوية والمعنوية والنقدية ، وسيفطن مباشرة أنه قُبالة رجل موسوعي فذ قلّما يجود الزمان بمثله.

ومن أمتع وأحسن ما فعله ابن الأثير في كتابه هذا ، أن جعله كاسمه مثلا سائرا ، وما على من أراد الثمرة -الفصاحة والبلاغة- إلا أن يتبع ذلك النهج المرسوم والطريق المرقوم. فتراه يذكر النتيجة ، ثم يعود إلى مقدماتها بالتطبيق ؛ أي أنه يبين لك ويرشدك إلى ما ينبغي قوله واتباعه في مذهب البيان سواءا للشاعر أو الكاتب ، وينقد ويؤصّل ويقعّد. فتارة يقول لك بأن هذا أجود للشاعر لا الكاتب ، وتارة يشير إلى حُسن ذلك المسلك للشاعر والكاتب على السواء ، وأخرى يخبرك بأن ما يصلح للكاتب لا يصلح للشاعر ؛ وفي تلك الحالات كلها ، لا يتركك دون هداية ورشاد ، بل يأخذ بيدك ويريك من الأمثال ما تستطيع القياس عليه والاحتكام إليه ، في مسلكك الذي تسلك ، ومنهجك الذي تنتهج ، لتصل إلى بساتين الحصاد بعد مشقّة الحرث والبذر. فيورد قولا لأبي تمّام أو البحتري أو المتنبي وغيرهم ، ثم يدلك على لطائف المعاني في قولهم ، أو يبين لك فساد ما ذهبوا إليه -والحكم في ذلك كله للحُسن كما تراه الذائقة السليمة على حد وصفه- سواء كان ذلك في الشعر أو النثر.

يدرك المرء اليوم أن ابن الأثير سابق لزمانه ، وأن له منهجا في النقد الفني قلّما تجد نظيرا له أو مثيلا ، وهو مع ذلك كله ؛ له البنيان المتين والمسلك القويم فيما ذهب إليه من نقد وتحقيق ، وتحرير وتوثيق.

تجدر الإشارة والإشادة بالطبعة الفاخرة الفخمة ، وذلك من طرق شتى لا من طريق واحد ، فالكتاب مطبوع طباعة فخمة جيدة لا تُشعِرُك بأنها طُبِعت عام 1983م! ، والورق المستعمل والحبر باقيان واضحان ، وكان التحقيق الممتاز من الدكتورين أحمد الحوفي وبدوي طبانة واسطة العقد لهذا كله ؛ فخرج الكتاب بحلته القشيبة البهية كأنه كوكب دري يوقد من شجرة المعرفة المباركة. ولقد تقطعت نفسي حسرات حين لم أجد بقية الأجزاء من هذا السِّفر العظيم ، ثم الأدهى من ذلك أنني لم أجد لدار الرفاعي بالرياض أُثرا ؛ فواأسفاه على خسارة فادحة كهذه ، ولربما تجود الأيام بأن أجد طبعة مقاربة لها في جودة التحقيق والتحرير ، فكم تفتقر مكتبتنا العربية إلى ناشرين يُعنَونَ بالجودة والجدّة في العمل قبل الربح المادي.

أخيرا ، أدعو القراء دوما لأن يؤجلوا قراءة المقدمة التي لا تكون بقلم المؤلف ، حتى وإن كانت بقلم محقق/مترجم/دارس أو حتى المعلق على الكتاب ؛ لأن ذلك أحرى بأن يُقرأ الكتاب كما أراد له مؤلفه. وإذ أني عدت لقراءة مقدمة محققي الكتاب بعد قراءة المتن ، فإني أهلل باسم محقِّقَي الكتاب وأشير لهما بالبنان والإجادة والإتقان ، فهاهو الكتاب يُتداوَل اليوم ونذكر فضلهما عليه و
أرواحهما في السماء ، فعليهما السلام ولهما الإجلال والاحترام.

 

علاءالدين الدغيشي

 @eagle_eyes_

01:42AM | 7/21/2021

تعليقات

المشاركات الشائعة