صورةٌ للروح.. أم للذاكرة؟ | 29 مايو 2025
"وإنني لأحمد الله أن هذه الرؤيا الطفولية العذبة ما تزال حية في داخلي بكل امتلائها باللون والصوت. وهذا ما يبقي عقلي بعيداً عن الضياع ويحفظه من الذبول والجفاف. إنها القطرة المقدسة من الماء الخالد التي تمنعني من الموت. وحين تكون لديَّ الرغبة في الحديث عن البحر والمرأة أو الله في كتاباتي فإنني أغوص في صدري محملقاً ثم أصغي بعناية لما يقوله الطفل في داخلي. إنه يملي عليَّ. وإذا حدث أن اقتربت من هذه القوى العظيمة، البحر والمرأة والله، واستطعت أن أتعامل معها بالكلمات وأن أصفها فإنني مدين بذلك للطفل الذي ما يزال يعيش في داخلي. إنني أعود من جديد طفلاً لكي أمكَن نفسي من رؤية العالم للمرة الأولى دائما وبعينين عذراوين". نيكوس كازانتزاكيس، تقرير إلى غريكو.
أتساءل دوما عن الذي تغير في حياتنا، وفي الوقت الذي يبدو فيه بأن الحياة صارت كاميرا نوثق بها اللحظات؛ أسأل نفسي، نوثّقها لمن؟. هل نوثقها لأجلنا؟ أم للآخرين من بعدنا؟ ثم هل نحن نوثقها لأننا نريدها أن تظل محفورة كحدث استثنائي في ذاكرتنا؟ أم كي تكون دليلا على وجودنا في المكان والزمان الفلاني؟. أم هو توثيق لجريمة آنيَّةٍ، نؤجِّل محاكمتها؟. أعتقد أننا تغيرنا من الداخل كذلك، أصبحنا عُرضة للاستهلاك والفناء، مات الشيء المقدس الثابت في صدورنا، أو منها على الأرجح، فلو أنه مات فيها لبقيت آثاره أو شواهده التي تدل على وجوده يوما، لكنها أرض فضاء بلا ساحل ولا مرسى. لم نعد تلك المخلوقات اللطيفة والشقية في آن، المخلوقات التي تشعُّ نورا في لحظات التجلِّي والنورانية الباهرة. والشقية في لحظات القسوة والغضب والفورة الحيوانية المحضة. بتنا أقرب إلى الآلات أكثر من أي وقت مضى، وبات الإله الذي نعبده صنيعةً بشرية نحاول تجسيدها. فلم يعد الله في تصورنا ذلك العظيم ذو القدرة اللامحدودة واللانهائية، بل أصبحت مقارباتنا له أشبه بالمقاربات الإغريقية للآلهة. إننا نتعامل مع الله كما لو أنه بشري يملك المحركات البشرية، فنطلب منه أن يغضب لغضبنا، ويحزن لحزننا، ويبتهج لبهجتنا؛ بينما كان الله غاية كل العابدين قبل أن تتحجر قلوبهم وعقولهم وتتحول أرواحهم إلى أسلاك كهربائية تجري فيها الدماء البشرية.
لا أحب أن تبدو كلماتي كما لو كانت توبيخا للبشرية، بل هو تذكير داخليٌّ لي ولكثير من الناس الذين نتقاطع معهم في الفكرة؛ وإن بدت الكلمات مختلفةً أو غير منطوقةٍ حتّى. لا ينكر أهمية الصور والتوثيق إلا جاهل أو متجاهل لها؛ ولكنَّ جَعْلَ التوثيقِ هوَ الغايةَ القصوى، والهدفَ الأسمى لذاتهِ، هيَ المُشكلةُ الحقيقيةُ. إننا نتحدث لا لنُسمَع ثم نَسمع، بل لنُسمَع فحسب دون حوار أو انتظار لما سيقوله الطرف الآخر. ولذلك تبدو منصة X كما لو كانت مدونة لا نهائية من الحِكَم الكونية التي تصلح لكل زمان ومكان، إنها سلّة مليئة بالفواكهِ والخضروات؛ لكنَّ من الحماقةِ تقديمُ سلّة مليئة بالعنب والموز والمانجو لرجل مصابٍ بالسُّكري، بل قد يكون في طعامه هلاكه. فالخلاصة التويترية التي تبدو وكأنها مغلفة بمواد حافظة طويلة الأجل، لا تعدو في كثير من الأحيان كونها فذلكة لغوية أو استعراض لعضلات التراكيب الباهرة والأحكام المطلقة على البشرية كلها، أو على فئة منها، إنها مثل منصات برامج المسابقات التي يقدم فيها المتاسبق ما عنده وينتظر التصفيق وحكم لجنة التحكيم. ثم إن ما تقدمه المنصات الاجتماعية من منبر يتيح للبعض أن يكوّن قاعدته أو جمهوره المعتنق لأفكاره ومعتقداته وكلامه، يصيب المتبوع بحالةٍ من النشوةِ التي تعميه لكثرةِ ما يَلقى مِنْ تصفيقٍ وضجيج.
يلهث كثيرون وراء الإعجاب والمتابعة في منصات التواصل الاجتماعي، لدرجة تجعل من الواقع اليومي مادة لاجتلاب التعاطف، المتابعة، والاهتمام. فلا يعدو أن يكون وجود الجد أو الجدة في العائلة ممثلا وحيدا وخالصا للنوستالجيا، أو تغدو صورة الميت الذي لا يُلقى له في حياته بالا إلا كُلّابا لمزيد من التعاطف واستدعاءٍ للضوء الزائف وغير الحقيقي أو استنفاعا منه بطرق كثيرة لكونه يمثل قيمة معنوية لا يُرجى منها شيء بعد رحيلها. ولكن لنتريث قليلا، فلا يعني ما سبق أن كل من يفعل ذلك يفعله للأسباب المذكورة أو الدوافع الآنفة الذكر، ولكن تكرار المشهد وتكرار الفعل ينبئ عن نمط متكرر يسترعي الدراسة والرصد، وكما هو معلوم فإن البعض ينبئ عن الكل أحيانا.
متى آخر مرة استلقينا فيها تحت السقف اللانهائي والممتد للمجرة؟ متى تبادلنا مع إخوتنا الحديث دون أن نلمس الهاتف؟ متى آخر مرة قمنا بأخذ الصورة التذكارية لأبوينا أو أحد أجدادنا لأننا نريد لتلك اللحظة أن تظل باقية دافئة في قلوبنا لا أن تكون دليلا على أننا "كنا هنا يوما ما". إن لهاثنا المستمر لا يَخفى على كبار السن، ولنتأمل في العبارة التي سمعتها غيرما مَرَّةٍ من فَمِ غيرِ واحدٍ منهم حين يُطلب من أحدهم أن يتم تصويره "عشان يوم نموت؟" أو "حاس أني بموت قريب؟". إن أعماق النفس الإنسانية أكثر صفاء وذكاءً مما نتخيل، وحتى إن بدت هنالك فجوة في الأدوات الذهنية والمُحَاجَّات المنطقية التي تمتلكها أجيال اليوم مقارنة بما امتلكته الأجيال القديمة؛ لكنَّ شيئا في الروح البشرية يسمى "البصيرة" يجعلها تدرك الأشياء وإن كانت لا تُدرِكُ أسماءً تلك الأشياء. وما الفرق بين الأديب وبين بقية الناس إذن؟ أليست معرفته بأسماءِ الأشياء؟. إننا نصرخ ذهولا ودهشة ونُصابُ بالقشعريرة حين نقرأُ نصًّا نجده يوافق ما نشعر به ويعتمل في أنفسنا طوال الوقت، ولا نجد لتلك اللحظة الصافية من التَّجَلّي لفظةً تُفصِحُ عن تلك الفَورةِ الداخليةِ غيرَ صُراخِنا بعينين مفتوحتين للمدى، وفَمٍ ينطلقُ دونَ افتعالٍ "الله!".
ما أقصر عمر الإنسان على هذه البسيطة، وما أقسى ما يواجهه طوال حياته. فليست الحياة سوى كفاحٍ مُستمِرٍّ وعقباتٍ كَؤودٍ تَستَدعي الصبرَ والمحاولةَ مرةً بعدَ أُخرى. يبدو من الابتذال في نظري أن نربط ما نقوم به لأجل الآخرين في هذه الحياة ونجعله رهنا لما سنحصل عليه مستقبلا حين نكون في مثل وضعهم أو أقل، بل ينبغي أن يكون فعل الخير لذاته لا لشيء آخر. وحين نريد أن نتذكر من نحب حقا وبصدق؛ لا يكون ذلك عبر الصور التي تحفظ الانعكاس، لكنها لا تمسك بالضوء أبدا. بل يكون الضوء منتقلا من كيان لآخر بالمحبة والتواصل والقُرب الحيِّ الدافئ. وقد أدرك هذا الأمر رجلٌ عربيٌّ قديمٌ فقال
لاَ أَعْرِفَنَّكَ بَعْدَ المُوتِ تَنْدُبنِي وَفِي حَيَاتِي ما زودتني زادي
فما فائدة البكاء على ما كان في أيدينا وتحت أعيننا حين يذهب وينقضي؟. وليس أحسن من العيد لتجديد العهد، وتصفية النفوس، وكظم الغيظ ودفن الخصومة. وليس عيبا أن نمتلك ما نمتلك من وسائل تحفظ الصور وتوثقها، وتحفظ اللحظات لاستعادة الشعور بها واستحضار روح زمانها؛ لكن العيب كل العيب، والمشكلة الحقيقية كامنتان في الهرولة المستمرة التي لا نتوقف في منتصفها لنتأمل ما مضى وانقضى، ونصحح ما يمكن تصحيحه قبل أن ينقضي هو الآخر. فما أحسن أن يكون التأبين فعلا في الحياة، لا قولا حين لا يسمع ولا يرى المتحدِّثُ المُتَحَدَّثّ إليه..
رعشة في الروح
ردحذفرعشات دافئة تلامس الروح دوما ✨
حذف