السفر كحاجة روحية | 23 مايو 2025
لا يذكر المرء حاجياته الأساسية في الحياة إلا ويذكر السفر معها، ورغم أن كلمة السفر التي نتداولها اليوم نطلقها على التنقل من البلاد التي نقيم فيها إلى بلاد غيرها؛ فقد كان للسفر معان واسعة لا يحدها هذا الفهم والتعريف. ولولا أهمية السفر لما ورد في القرآن والسنة، فكم من آية نزلت وذكرت السفر نصا، حتى وردت في تسع آيات، عدا الآيات التي تكني عن السفر والترحال ولا تصرح به بذات الكلمة. وكما في الحديث الشريف "اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر..". وحاجة المرء للسفر خارجة عن إرادته أحيانا؛ فمنهم من يسافر للترفيه -وهذا المعنى المرتبط بكلمة السفر اليوم- ومنهم من يسافر لضيق الحال في بلاده وموطنه، ومنهم من يسافر لطلب العلم، أو للعلاج من مرض لا يجد له علاجا في بلده، أو لهرب من الظلم أو القتل، أو لعبادة الله وتعظيم شعائره أو لغيرها من الأسباب. ومن معانيه كما ورد في لسان العرب "..وسمي السفر سفرا، لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم فيُظهر ما كان خافيا منها". وإذا كان من معاني السفر الانتقال من مكان إلى آخر، فإن القراءة والتأمل والتفكر كلها أسفار حتى وإن لم ينتقل جسد الفاعل لها من مكانه الذي هو فيه، فضلا عن بلده وموطنه.
عبّر عن هذه الحاجة الروحية غير واحد من الحكماء والأدباء، فلا تجد أديبا أريبا من أرباب الحكمة والفصاحة والبيان إلا وقد أتى على ذكر السفر إما ذكرا مستفيضا مبينا لمحاسنه وآثاره على المسافر، أو معرّضا بذكره في ثنايا حديثه أوبالكناية عنه والإشارة إليه بمعانيه التي ذكرتها سابقا. ومن هؤلاء التوحيدي الذي كرر ذكر السفر في عدة مواضع من كتبه، فيقول في إحدى هذه المواضع من كتاب الإمتاع والمؤانسة "ورسم بجمع كلمات ٍ بوارع، قصار جوامع، فكتبتُ إليه أشياءً كنتُ أسمعها من أفواهِ أهلِ العلم والأدب على مَرِّ الأيامِ في السفرِ والحضر، وفيها قَرعٌ للحسِّ، وتنبيهٌ للعقل، وإمتاعٌ للروح، ومَعونةٌ على استفادةِ اليقظة، وانتفاعٌ في المَقامات المختلفة، وتمثُّلٌ للتجاربِ المُخَلَّفَة، وامتثالٌ للأحوالِ المُستأنَفَة". فانظر إلى هذه القطعة العالية التي جمعت ما يستفيده المرء من حياته في سفره وحضره.
وفي السفر يرى المرء أشياء جديدة غير ما اعتاد عليه في بلده وموطنه، وإذا ما نظرنا إلى تاريخ البشرية وأمكنة استيطان الناس، فسنجد أن التطور في كل حضارة كان نتاجا مباشرا للسفر؛ فتتلاقح علوم الحضارات بانتقال السكان وذهابهم إليها ومجيئهم منها. كما أن هذا الأمر غيّر مجرى الطبيعة حتى؛ فكم من شجرة نقلها الإنسان بيديه من مكانها الطبيعي إلى آخر لم تكن في من قبل، ولنا في قصة شجرة الأمبا وأسباب دخولها إلى عمان عبرة وخبر طريف. كما أن السفر يعلم الإنسان التواضع ويبين له مدى جهله وضآلة معرفته، فيرى بأم عينيه كيف يعيش الناس وكيف يعيش هو، ويرى كيف يعملون وكيف يعمل هو، ويرى العمران وطريقة التعامل والبديهيات التي عندهم والتي يراها هو شيئا كبيرا أو أمرا عجيبا.
كما أن في السفر تعليما للمرء حين يرى الأشياء التي يصنعها في معاشه وحياته اليومية في وطنه، يراها بطريقة أيسر وأسهل وأجدى. ومن ذلك ما يكون في الحرف اليدوية والبناء والتعمير، ففي كل قُطر من أقطار الأرض طريقته التي لها فوائدها ومضارها في آن. كما أن فيه تطهيرا للنفس من عصبيتها وظنونها، فيرى كيف يُعَامل العظماء في بلدانهم ويقارنها بالكيفية التي يعامل بها تراثه وحاضره؛ ولنا في مدينة شيراز الإيرانية عبرة ومثال. فلا تجد طريقا، ولا محلا، ولا نصبا تذكاريا، ولا شارعا رئيسا أو مَعلما مقصودا؛ إلا وفيه لشاعرهم الكبير وأستاذهم القدير حافظ الشيرازي ذكرا وإشارة. ويفتخر أبناء تلك المدينة بهذا الشاعر كما لو أنه أبوهم الأكبر، ومعلهم الحكيم الذي لا ينتسبون إلا إليه، حتى ليكاد الناس ينسبون أنفسهم إليه لا إلى مدينته.
وفي هذا الأمر تهذيب للنفس، وذلك لأن المرء لا بد وأن يقتدي بأحد ما في حياته، سواء أدرك ذلك وراقبه بوعي منه وبصيرة، أو كان خارجا عن إرادته ووعيه وإدراكه. وتهذيب النفس يأتي من الاقتداء بالعظماء الكبار، فيحفظ مآثرهم ويردد كلماتهم أو أشعارهم، وحتى إن كان لهؤلاء العظماء سقطات وهفوات؛ فإن ما يبقى ذكره ويمتدّ أثره، إنما هو الطَّيّب الحسن من سيرتهم وأخبارهم وأقوالهم وآثارهم. ولنتخيل كيف سيكون احتفاؤنا بأبي مسلم البهلاني في سمائله، أو العوتبي في صحاره وغيرهم من الكبار النوابغ الذين لا يجود بمثلهم الدهر إلا في السوانح القليلة النادرة جدا.
أما السفر في العلم ولأجل العلم، فأخباره طويلة كثيرة، عصيّة على الحصر ولا يحدها الفكر. وكم من عالم بارع نبغ في فنه وأتى بالعجائب، وهو لم يبرح مكانه ومدينته، بل وربما كان رهينا لمحبسه ومنزله كحال أبي العلاء المعري الذي لُقّب برَهين المحبسين والذي تحدثنا عنه في سلسلة ابطاريق الكبار المنشورة في جريدة عمان سابقا. كما أن أحد أهم الفلاسفة في العصر الحديث والذي يُكنى بأبي الفلسفة الغربية وربّانها الأشهر إمانويل كنط، لم يغادر مدينته قط كما في أخبار حياته؛ لكن سافر بعقله وبكتبه ومعارفه إلى عوالم وقرون لم يكن ليسافر إليها دون مخيلته الوقادة، وذهنه الحاد، وبصيرته النافذة. وما أحسن ما قاله الشاعر
تغرّب عن الأوطان في طلب العُلا
وسافر ففي الأسفار خمسُ فوائدِ
تَفرُّجُ هَمٍّ واكتساب معيشةٍ
وعِلمٌ وآدابٌ وصُحبَةُ ماجدٍ
تعليقات
إرسال تعليق