قراءة في رواية "الأخوة كارامازوف" ، دوستويفسكي ، الجزء 1 - الباب 1

قراءة في رواية "الأخوة كارامازوف" للعظيم جدا "دوستويفسكي" وترجمة القامة السورية الشامخة "سامي الدروبي".

منذ فترة طويلة وأنا أتحرق شوقا لتلامس أطراف أصابعي عملا من أعمال دوستويفسكي ، ذلك الروائي الروسي الوجودي العظيم.
ولم أكد أصدق عيناي حين استعرت الأجزاء الأربعة لرواية "الأخوة كارامازوف" رغم أنني تمنيت وما زلت أتمنى أن أقرأ روايته العظيمة "الأبله".
تصدر هذه الرواية عن المركز الثقافي العربي في أربعة أجزاء وفيها مقدمة ل"يوري سليزنيوف" في قرابة الست عشرة صفحة وهي مقدمة مهمة جدا وعميقة -في نظري- تعرض أعمال دوستويفسكي بصورة عامة وتتحدث عن الرواية التي نناقشها الآن بشكل خاص.

افتتاحية الرواية قبل مقدمة المؤلف بضع كلمات من (إنجيل يوحنا ، الإصحاح الثاني عشر ، 24):
"الحق الحق أقول لكم:
إن لم تقع حبة الحنطة في الأرض وتَمُتْ فهي تبقى وحدها.
ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير".

تتبعها مقدمة أخرى ولكن المقدمة هذه المرة بقلم الروائي الوجودي نفسه أقصد "دوستويفسكي" ، وهي تمهيد مهم حسب الراوي باعترافه الخطي في مقدمته ، وفيه لمحة دقيقة عن "ألكسي فيدوروفتش كارامازوف" والذي هو بطل الرواية.

تبدأ الرواية بالباب الأول المعنون ب"قصة أسرة صغيرة" والذي يتكون من خمسة فصول.
عُنْوِن الفصل الأول من الباب الأول ب"فيدور بافلوفتش كارامازوف" وهو والد بطل القصة "ألكسي" ، وكيف عاش حياته بين سكر وعُهر ، وكيف اختطف النبيلة "آدلائيدا إيفانوفنا" من أسرة "ميوسوف" الغنية العريقة في نبالتها ، فنتج عن هذا الاختطاف حب وعشق من "آدلائيدا" ل"فيدور" فتزوجا رغم أن فيدور هذا خسيس المنزلة!.
كانت آدلائيدا تعلق الكثير من الآمال على فيدور ولكن آمالها لم تلبث أن تبددت بعدما رأت جشعه في الاستيلاء على أموالها وكانت هي قد بدأت تتخلى عن أموالها طمعا في التخلص منه بعدما أظهر معدنه الحقيقي الرديء ، فينتهي هذا النفور إلى هروب الزوجة مع طالب إلى بطرسبرج ، وهنا يتحين فيدور الفرصة فيتحول منزله إلى -بيت دعارة وخمر!- وتطيب له الحياة في بُعد آدلائيدا ، وما يلبث أن يشتاق لآدلائيدا رغم شخصيتها القوية وبنيتها الصلبة وتغلبها عليه في غيرما مناسبة!.
وهي الأم لولده الوحيد حينها "ميتيا" ، فيقرر فيدور أن يسافر إلى بطرسبرج ليلتقي بزوجته ويقنعها بالعودة ، ولكنه يتلقى خبر وفاتها في اللحظة الأخيرة!!.
العجيب أن فيدور شعر بالسعادة وصرخ "الآن حررت عبدك يا رب!" وفي الوقت ذاته كان ينتحب انتحاب الأطفال!.
ينتهي الفصل الأول المعنون ب"فيدور بافلوفتش كارامازوف"

وتبدأ أحداث الرواية في الإثارة مع الفصل الثاني من الباب الأول "كيف تخلص من ابنه الأول".

في هذا الفصل يقوم فيدور بالتجاهل التام لابنه اليتيم "ميتيا" ويغرق في عربدته وخمره ، أصبح المنزل مكانا للفسق والفجور وأصبح ميتيا في طي النسيان لكن رحمة "جريجوري" خادم الأسرة وعطفه ، جعلاه يضم هذا الطفل الصغير ذو الثلاث سنين إلى كنفه ورعايته ، ونسي الجميع -المسكين- ميتيا فجده لأمه قد فارق الحياة وجدته لأمه امرأة طاعنة في السن وقد رحلت إلى موسكو للعلاج أما خالاته فقد تزوجن تباعا.
وهكذا فقد لبث الصبي ميتيا سنة كاملة في كوخ الخدم مع "جريجوري".
وفي يوم ما ، أتى إلى البلدة ابن عم آدلائيد وهو "بيتر ألكسندروفتش ميوسوف" ، وهو ليبرالي كان يقطن باريس وهو على قدر عال من الثقافة وذو مكانة مرموقة فقد كان على اتصال بقادة الليبرالية حينها أمثال "باكونين".
علم بيتر بمصرع ابنة عمه وبأمر ميتيا فهبَّ لأخذ ميتيا وتربيته ووافق الأب الذي كان يتناسى أن له ابنا أصلا! ، فأخذه بيتر إلى منزله ولكنه بعد مدة اضطر إلى العودة إلى باريس وهكذا عهد بالصبي إلى إحدى بنات عمه في موسكو ، ومع مرور الزمن نسي بيتر أمر ميتيا وماتت السيدة الموسكوفية وانتقل ميتيا إلى منزل إحدى بناتها المتزوجات ثم انتقل بعد ذلك مرة أخرى إلى وجهة رابعة لم يحددها الروائي!.

ميتيا أو "دمتري" عاش حياة مليئة بالمصاعب والعقبات ، فمن خروجه من المدرسة قبل إتمام دراسته فيها إلى دخوله مدرسة عسكرية انتهاء بقائمة الديون التي تكدست عليه بسبب لهوه وتبديده للمبالغ!.
وكان يعتقد أنه سيحصل على ثروة من نصيبه من تركة والدته ، لكنه كان يحصل على بضع روبلات -الروبل عملة روسيا- من والده ، حتى ضاق ذرعا وطالب والده بمستحقاته لكن الأب الخبيث كان قد احتال على ابنه حين رأى فيه التبذير واللامبالاة!.
فأصبح ميتيا فجأة بلا مال ، واكتشف أن والده استغل طيشه وجهله ، ولكنه لا يقدر على شيء.
وهنا ينتهي الفصل الثاني بهذه الصدمة التي تلقاها دمتري -ميتيا-.

"الزواج الثاني وابنا الفراش"
كان هذا عنوان الفصل الثالث من الباب الأول للرواية في جزئها الأول.
وتبدأ أحداث هذا الفصل بالشخصية الجدلية مرة أخرى "فيدور" فهو لا يكاد يتخلص من ابنه "ميتيا أو دمتري" حتى تبدأ مغامرة الزواج الثاني ، ويبدو أن تجربته مع "آدلائيدا" أعجبته!، فقرر أن يخطف بنتا أخرى ولكن هذه المرة كانت الفتاة التي يخطفها شابة في ريعان الصبا وهي فتاة يتيمة لم تعرف عائلتها يوما! ، ولكنها نشأت مع أرملة الجنرال "فوردخوف".
فكانت هذه العجوز تربيها وتحسن إليها ، وفي الوقت ذاته كانت تضطهدها وتهينها!! ، لا عن كِبر وعلو ولكن الفراغ الذي تعيشه هذه العجوز جعلها مستبدة متسلطة على تلك اليتيمة المسكينة التي حاولت الإنتحار وفشلت في محاولتها.
خطب فيدور الفتاة فرفضوه لما يعلمون من حاله مع الخمر والنساء ، فقرر أن يُحيي تجربته السابقة مع "آدلائيدا" مع هذه المسكينة التي كان اسمها "صوفيا إيفانوفا" ، والتي حاولت الانتحار كما ذكرت آنفا وهو ما جعلها تتأمل في هذا الزوج الجديد مخرجا وفسحة أمل ومهربا من كابوس العجوز المستبدة رغم أنها لم تتجاوز السادس عشرة من عمرها!!.
لم تتخيل صوفيا أن يكون هذا ال"فيدور" على هذا القدر من الدناءة ، ولم تتخيل أن يتحول زواجها إلى كابوس مرعب ، ففيدور لا يتورع عن جلب العاهرات أمام عينيها! ، ولا يتورع عن شربه للكحول ، فزواجه لم يكن نابعا من حب وعاطفة صادقة ولكنها الطبيعة الشهوانية لهذا الرجل الذي رأى في الفتاة المسكينة المفاتن التي كان يبحث عنها!.
ولكن "جريجوري" هذه المرة أصبح ذا صوت في البيت رغم كونه خادما! ، فكثيرا ما كان يطرد المومسات من منزل سيده -بالقوة- احتراما لهذه المضطهدة "صوفيا" ورأفة بها.
ولأن المصائب لا تأتي فرادى ، أصيبت "صوفيا" بمرض عصبي أشبه ما يكون بالخرف والهذيان ، وأنجبت في تلك الفترة وليدها الأول "إيفان" وبعده بثلاث سنين "ألكسي" -الذي سيكون بطلا للرواية- ، وبعد ميلاد ألكسي بأربع سنوات قضت المسكينة نحبها بعدما استمر زواجها ثماني سنين وهي في أوج الشباب في الرابعة والعشرين من عمرها.
ومثلما حدث مع "دمتري" سابقا ، يحدث الأمر ذاته مع أخويه الصغيرين مع تغييرات طفيفة في حالتهما. فقد انشغل الوالد بمجونه وفسقه مرة أخرى.
وبعد موت صوفيا بثلاثة أشهر ، ظهرت العجوز "فوردخوف" فجأة لتدخل بيت هذا السِّكِّير لتُنقذ الطفلين من ذلك المستنقع القذر ، ولكنها لم تجدهما في المنزل فقد كانا في كوخ "جريجوري" مرة أخرى وكأنهما يسيران على خُطى أخيهما الأكبر "دمتري" الذي لم يرياه يوما!.
صفعت العجوز "فيدور" صفعتين لسكره وثمالته ، وكان نصيب الخادم صفعة واحدة لأن الولدين كانا متسخين! ، فأخذتهما في عربتها وانطلقت بهما إلى منزلها.
وياللمصيبة! ، فقد توفيت العجوز الجنرالة بعدها بوقت قصير لكنها أورثت كلا من الطفلين في وصيتها مبلغ ألف روبل خصصته لتعليمهما -كما ذكرت الوصية - وبعد موت العجوز كان الوارث الرئيس للعجوز رجلا نبيلا ، بل سيد نبلاء مقاطعته وهو "إيفيم بتروفتش بولينوف" الذي أرسل لوالد الطفلين لكنه تيقن أن هذا السِّكِّير غير مكترث بهما ، فاهتم "إيفيم بتروفتش" شخصيا بالولدين وتعلّق بأصغرهما خصوصا "ألكسي" ، ولأن "إيفيم بتروفتش" كان على قدر من الطيبة والنزاهة ، فقد استثمر للولدين كل ألف من ألفيهما حتى يبلغا سن الرشد ولم يلمس روبلا واحدا من ذينك الألفين ، بل أصبح كل ألف منهما ألفان! ، وكان ينفق عليهما من ماله الخاص فوفر لهما التعليم المناسب.
كان "إيفان" يشعر بالإحراج بسبب موقفه ، فهو رغم صغر سنه إلا أنه يدرك أن هذه العائلة تربيه من باب الإحسان والشفقة وأن والده "زير" خمر ونساء فكان يتحرج من ذلك أيما حرج ، وقد أظهر الصغير "إيفان" قدراته الرائعة والمميزة في الدراسة فكان متفوقا ، وترك أسرة "إيفيم بتروفتش" حين أصبح في الثالثة عشر من عمره وشد الرحال إلى موسكو ليتعلم على يد صديق قديم ل"إيفيم" وهو عالم في التربية ذائع الصيت.
وحين أنهى "إيفان" دراسته الثانوية كان العالِم و"إيفيم" قد قضيا نحبهمها! ، فانتسب إلى الجامعة ولأن الألفين -نصيبه من الميراث- قد تأخر وصولهما إليه ، فقد اضطر إلى العمل. فبدأ بإعطاء الدروس الخصوصية مقابل أجر زهيد ، ثم بدأ في الكتابة في الصحيفة تحت اسم "شاهد عيان" وهو ما جعله ذائع الصيت! ، فعُرِفَ في المحافل الأدبية.
أنهى "إيفان" دراسته الجامعية وقرر أن يسافر بالألفي روبل لكنه عوضا عن ذلك وفي حادث غير متوقع ، قام بالرجوع إلى منزله حيث ترعرع في أول حياته ، وللمفارقة فإن الأب الغبي وهذا الابن المثقف كانا على طرفي نقيض في الثقافة والتفكير والاهتمامات ، ولكنهما انسجما!!.
في تلك الفترة عاد "بيتر ألكسندروفتش ميوسوف" من باريس -قريب زوجة- "فيدور" الأولى.
تعجبَ "بيتر" أيما تعجبٍ حين علم أن "إيفان" المثقف هو ابن "فيدور" الأحمق السخيف!! ، ورأى في "إيفان" منافسا وندا له في الثقافة ولكنه تعجب مثل بقية الناس أيضا من مكوث هذا الشاب -الحَذِق- مع أبيه -النَّزِقِ الطبع!- ثم تبيَّن فيما بعد أن "إيفان" كان على اتصال مع أخيه الأكبر -الذي لم يره يوما- "دمتري" أو "ميتيا" وهو سبب مكوثه في منزل والده رغم أن "ميتيا" يكره والده أشد الكره ويبغضه بل وأقام "دعوى قضائية" ضد والده!.
وللمصادفة ، فقد اجتمعت العائلة لأول مرة ، ولأول مرة يرون بعضهم البعض وذلك حين لعب "إيفان" دور الوسيط بين أخيه الأكبر و والده بسبب ما بينهما من نزاع.
العجيب أن "ألكسي" كان قد سبق أخويه في المدينة بسنة كاملة ، ولكنه كان يقطن في دير استعدادا ليصبح راهبا ومتهيأ ليعتكف في ذلك الدير طيلة حياته.

وهنا تنتهي مشاهد الفصل الثالث من الباب الأول من الرواية.

حين قرأت عنوان الفصل الرابع من الباب الأول والمعنون ب"أليوشا، الابن الثالث" ، علمت أنني سأدخل -رسميا- في التفاصيل المشوقة للرواية ؛ لأن "أليوشا" هذا هو "ألكسي" نفسه ، وهو بطل الرواية كذلك!.
وفي هذا الفصل نجد دوستويفسكي يشخص لنا هذه الشخصية ويضع الأساس النفسي والخُلُقي لشخصية "ألكسي" ، فأليوشا كما وصفه "دوستويفسكي" إنسان يفيض حبا للبشر ولَإِن أخطأ أحد في حقه لسامحه فورا دون حقد أو ضغينة وهو شاب عفُّ اللسان والسمع فكان يغطي أذنيه عن سماع الفُحش من القول ، وهو ما جعله محبوبا لدى كل من عرفه.
وتتضح معالم هذه الشخصية "الملائكية" حين نرى تعلقها بأمها رغم أن الأم قضت نحبها و"أليوشا" في الرابعة من العمر ، إلا أن أليوشا ما زال يتذكرها وظلت صورة أثيرية لمشهد يجتمع فيه ألكسي مع أمه عالقة في ذهنه.
توجه أليوشا إلى -نقيضه- في الصفات ، وأعني والده الفاسق السخيف ليستأذنه في الإلتحاق بدير الرهبان في تلك المدينة فكان جواب الأب ممزوجا بالعاطفة والخبث ، ولكنه سمح لولده بالإلتحاق بالدير مع إفصاحه عن مشاعر حبه تجاه أليوشا بالذات خصوصا وأنه يشبه والدته الراحلة كثيرا!.
قبل ذلك، ترك أليوشا المدرسة ، وحين كان في منزل والده ، طلب من أبيه أن يدله على قبر أمه فكان جواب الأب باردا بأنه لا يعرف موضع القبر!! ، فهو منشغل بالخمر والنساء مذ رحلت زوجته الثانية ، بل كان في قمة فسقه وفجوره!.
جاء الجواب الشافي من جريجوري ، الخادم الأمين بأنه يعلم مكان القبر ؛ كيف لا وهو من اهتم بجنازة السيدة أصلا!!.
أخذ جريجوري أليوشا إلى قبر أمه ، وهناك وجد الابن صفيحة حديدة أنيقة على قبر والدته ، كُتب عليها اسمها وأصلها وسنها وتاريخ وفاتها ، وأسفل هذه المعلومات كُتبت أبيات مُقَفَّاة من شعر المناسبات جرت العادة أن تُزَيَّن به قبور أبناء الطبقة المتوسطة من الناس.
تمدّح جريجوري أثناء ذلك بأنه من صنع تلك الصفيحة واعتنى بها ، بينما كان ألكسي خافضا رأسه أمام القبر صامتا ثم انصرف دون أن ينطق بكلمة واحدة.
في تلك الفترة قام فيدور بالذهاب إلى الدير الذي بقي فيه أليوشا ليتبرع بألف روبل من أجل الصلاة على روح زوجته ، ليست صوفيا!
بل زوجته الأولى التي كانت تكسر شوكته وأعني بذلك "آدلائيدا"، ولكنه أحرج ولده أليوشا لأنه كان في حالة سكر فسبَّ الرهبان أمام ابنه أليوشا -الراهب المبتدئ- .
في نهاية الفصل نجد حوارا بين الأب -قليل التدين- وابنه الذي يستعد للتَّرهب ، حول جهنم وهل لها سقف أم لا وهل هناك خطاطيف تلتقط بها الشياطين أولئك البعيدين عن الرب أم لا وفيه حوار لطيف ينتهي بذرف الدموع من الأب العاطفي الممتلئ خبثا!. وهكذا تنتهي لوحة هذا الفصل من الباب الأول.

"مشائخ الرهبان"
كان ذلك عنوان الفصل الخامس والأخير من الباب الأول في رواية "الأخوة كارامازوف" ، ويبدأ بوصف البنية الجسمانية ل"ألكسي" وجمال وجهه وخديه ، والتفاصيل الأخرى من شعره البني وعينيه الرماديتين وغيرها من الصفات.
كان ألكسي "واقعيا" والواقعي كما يروي لنا دوستويفسكي صعب الإيمان بالمعجزات! ، معللا ذلك بأن المعجزات ليست هي التي تولد الإيمان لدى الإنسان الواقعي. فالإنسان الواقعي الحقيقي إذا كان غير مؤمن ، يستطيع دائما أن يجد في نفسه القوة والقدرة على إنكار معجزة من المعجزات ، فإذا أكدت هذه المعجزة نفسها بحادثة لا سبيل إلى جحودها آثر أن يشك في صدق حواسه على أن يسلم بالواقع.حتى إذا قرر أخيرا أن يعترف بالواقع عدّه ظاهرة طبيعية كانت إلى ذلك الحين مجهولة له لا أكثر!.
"إن المعجزات لا تولد الإيمان لدى الواقعي. بالعكس: فإن الإيمان هو الذي يستدعي لديه المعجزات. فمتى أصبح مؤمنا سلم بالمعجزات حتما ، بحكم واقعيته نفسها."

كان أليوشا شديد الذكاء وكان باحثا عن الحقيقة ونبّه دوستويفسكي على هذا لأن ألكسي ترك الكلية! ، وترك الكلية لا يعني الغباء أبدا.
وفي هذا الفصل رائعة من روائع دوستويفسكي حين يتحدث من(71-70) عن الدراسة وأهميتها وفيها رسالة رائعة جدا إلى الشباب.
وأنقل لكم جزء من هتين الصفحتين:
"من المؤسف أن الشباب الذين من هذا النوع لا يدركون أن التضحية بالحياة قد تكون بين جميع أنواع التضحيات أقلها صعوبة في كثير من الأحوال ، وأن التضحية بخمس سنين أو ستة من حياتهم في معمعان الشباب ، من أجل الدراسة الشاقة والتعلم الصعب ، ولو لمضاعفة قواهم بغية أن يخدموا بعد ذلك العقيدة التي يريدون أن ينذروا أنفسهم لها ، وبغية أن يحققوا مآثرهم التي يحلمون بها تحقيقا أتم وأكمل أقول إن التزامهم أنفسهم ببذل هذا الجهد يتطلب شجاعة أكثر من الشجاعة التي تتطلبها التضحية بحياتهم... تلك صورة أخرى من التضحية قد تفوق في كثير من الأحوال قوى هؤلاء الشباب."
وبعدها مباشرة يتطرق دوستويفسكي إلى الإشتراكية وتعريفها بأنها ليست إلا نظرة إلحادية وتجسيد حديث للكفر بالدين.
تعلق ألكسي بشيخ الرهبان "زوسيما" وهو أساسا الشخص الذي أقنعه بالدخول إلى الدير ، ونجد في وصف دوستويفسكي لزوسيما وكأنه وصف لنبي!. ثم يبدأ في شرح معالم الدير وتقسيماته الإدارية و وظائف وأعمال من هم بداخله من مسؤولين وطلاب.
لكن الجزء الأكبر يتحدث عن شيخ الرهبان "زوسيما" ذو الخمسة والستين عاما ذلك العجوز المريض الذي أنحله المرض وجعله يبدو أكبر مما هو عليه بعشر سنوات!.
قرّب زوسيما ألكسي بل وجعله يعيش معه في نفس الغرفة! ، وكان ألكسي مأخوذا بهالة السلطة والقداسة التي تحيط بزوسيما مبهورا بها. وهناك وصف لحال الناس أو "الحجاج" الذين يتوافدون إلى دير زوسيما لنيل الشفاء والبركة من قداسة أبيهم "زوسيما".
ثم تتحول الأنظار إلى أخَوَي ألكسي وهما ، دمتري -الأخ الأكبر- و إيفان -شقيق ألكسي- ،والعجيب أن ألكسي تفاهم مع أخيه الأكبر دمتري تفاهما أسرع وأعمق من تفاهمه مع أخيه الشقيق إيفان الذي كان ملحدا وهو ما جعله يعامل ألكسي بعدم اهتمام واكتراث.
كان أليوشا قلقا لما سيحصل من أحداث ، فهذا الإجتماع أساسه "دمتري" الذي كان على خلاف مع أبيه حول الميراث وهو ما جعلهم يترافعون إلى شيخ الرهبان زوسيما ويطلبون الإجتماع به ، وصادف ذلك وجود "بيتر ألكسندروفتش ميوسوف" الليبرالي المتحرر من العقائد والكافر بالأديان (كما وصفه دوستويفسكي) ، فتبنى فكرة الإجتماع في حجرة زوسيما من باب السأم والضجر وحب استطلاع الدير رغم ما كان يبديه -ظاهرا- من عدم اكتراث بذلك!.
ولكن حاجة بيتر هي لأجل تحديد حدود أراضيه وحدود أراضي الدير المتاخمة لها وعلى الحقوق الغامضة في قطع أشجار الغابات وصيد أسماك النهر وغيرها ، فانتهز هذا الظرف متعللا بأنه يريد الحديث مع كبير الرهبان شخصيا.
يضطرب أليوشا من هذا الإجتماع ويصبح مهموما لما يعلمه من عائلته الغريبة! ، فأبوه شخص ساذج غبي وكذّاب لا يتورع عن الكذب كثير الكلام والتهريج وفوق هذا كله زير نساء وخمر. وأخوه إيفان الذي يشبه إلى حد كبير بيتر يشتركان هو وبيتر في ازدرائهما للأديان. بقي دمتري الذي كان رغم حبه الشديد لإيفان وتعلقه به إلا أنه كان معتدلا.
لاحظ فيدور ما على ابنه "ألكسي" من همٍّ وخوف وتوجس وريبة من هذا الإجتماع ، فأسرع يطمئنه برسالة اختتمها قائلا:
"إنني أؤثر أن أبلع لساني على أن أقول كلاما يؤذي هذا الإنسان المقدس الذي تُجله وتعظمه". غير أن هذه الرسالة لم تكن كفيلة بأن تطمئن أليوشا.

وهكذا انتهت أحداث الباب الأول من الجزء الأول من رواية "الأخوة كارامازوف" ، ترقبوا أحداث الباب الثاني من الرواية.

بقلم:
علاءالدين الدغيشي
Instagram:
@Eagle_eyes_
Facebook :
علاء الدين الدغيشي
twitter:
علاءالدين الدغيشي

تعليقات

  1. جميل ان تفتح مدونتك استاذ علاء الدين وبالتوفيق لك

    اما عن موضوعك..ف انا اختلف معك..الرويات ليس لها فائدة تذكر او لربما القليل -كالمفردات اللغوية مثلاً- قرآءة الروايات اشبه بمتابعة مسلسل تلفزيوني مجرد مضيعة للوقت.. وجهة نظر

    ماجد المرزوقي

    ردحذف
  2. جميل هو التلخيص، نعم تحمست لدرجة الاهتياج كمن يحل مسابقة رياضيات، اقرأ ما تكتب و أتذكر الاحداث و النقاشات، جميل ما كتبت.
    ان فيدور دوستويفسكي ليس فقط استثنائي بل هو مبدع. بعد شهادات كبار العلماء من اينشتاين و غيرهم خصوصا عن الاخوة كرامازوف. وذهب الامر بفرويد للاعتراف بأنه اخذ مفاتيح فرضياته في علم النفس من هذا الروائي.
    مقالة سأحتفظ بها مع باقي ما ستكتب و انصح كل من قرأ الاخوة كرمازوف بقراءتها لصونها احداث الرواية.
    لا أحبذ قراءة شيء عن رواية انوي ان أقرأها هذه من مبادئ الحماس.
    اما بعد الكرامازوف انصحك بقراءة الشياطين فبرأي هي توازي الكرامازوف انما كمنحى سياسي.
    وشكرا لك
    بالتوفيق

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة