قراءة في رواية "الأخوة كارامازوف" ، دوستويفسكي ، الجزء1 - الباب 2
قراءة في رواية "الأخوة كارامازوف" ، دوستويفسكي ، الجزء 1 - الباب 2
بعد قرابة الخمسة والثمانين صفحة من الرواية ، يأتي الباب الثاني "اجتماع في غير محله" ليكون أقرب إلى السلسلة المتصلة بما قبله أو لنقل الرابط بين الباب الأول والثاني.
يبدأ هذا الباب بالفصل الأول الذي أخذ اسم "الوصول إلى الدير" ، وفيه وصف لوصول فيدور وابنه إيفان بصحبة بيتر ألكسندروفتش الذي كان أمامهم بعربة خيوله الشابة بينما استقلا هما بعربة الخيول المهترئة والتي تجرها خيول طاعنة في السن ومتعبة.
كان بصحبة بيتر ألكسندروفتش شاب من ذات عائلة ميوسوف اسمه "بيتر فومتش كالجانوف" وهو كثير الصمت قليل الكلام ذو مظهر حسن وبنية جسمانية قوية لكنه لا يخلو من شيء من الخراقة (أي أنه أخرق).
وصلوا جميعا بعد نهاية الصلاة الثانية والناس ينسحبون من الدير بعد انتهاء القدّاس ، ولم يكن أحد منهم قد دخل الدير من قبل سوى فيدور حين تبرع بألف روبل من أجل الصلاة على زوجته الراحلة آدلائيدا.
وصل الجميع لكن دمتري لم يصل! ، استغربوا أن أحدا لم يستقبلهم أثناء دخولهم الدير ولكن رجلا أصلع كبير السن متلطف النظرة قد لاحظ بأنهم غرباء عن المكان فرفع قبعته وقدّم نفسه إليهم على أنه الملّاك "ماكسيموف" من إقليم "تولا" فأخذ يصف لهم مكان صومعة الشيخ زوسيما ورافقهم في المسير إليها ، ولكن ميوسوف لم يعجبه هذا الرجل لأنه كان ينظر إليهم بطريقة فضولية جدا مبحلقا عينيه حتى لتكادان أن تخرجا من مكانيهما!. فصرخ ميوسوف في وجهه بأنهم يريدون الشيخ في أمر يخصهم وحدهم ويطلبون منه عدم الدخول معهم إلى صومعة الشيخ ، فردّ بأنه كان مع الشيخ زوسيما قبل قليل وأخذ يمدحه ويصفه لميوسوف واصفا إياه بالفارس العظيم!.
فجأة ، لحق بالزورا راهب قصير القامة ، شاحب الوجه ، نحيل الجسم فخاطبهم بأدب عظيم مشيرا إلى أن زوسيما في انتظارهم وهو يدعوهم لتناول وجبة الغداء ، فرّد فيدور بالموافقة مباشرة لكن ميوسوف وافق ليستطلع أكثر عن هذا الدير ثم ولّى الراهب وجهه إلى ماكسيموف ليخبره بأنه مدعو أيضا.
وقف الجميع -عدا دمتري الذي لم يصل بعد- أمام باب الصومعة وقبل الدخول إليها التفت ميوسوف إلى فيدور محذرا إياه من أن يتصرف بحماقة تجعل من الشيخ يغضب وأن لا يُرخص مقامهم بسبب سذاجته وكذبه.
وقبل دخولهم لمحوا جمعا من النساء الراقدات قرب الرواق في انتظار خروج الشيخ إليهن للشفاء والبركة وحوائج أخرى من الشيخ الأعظم ، وفي الطرف الثاني من السياج كانت هناك غرفتان للسيدات أيضا ، ولكن لسيدات الطبقة العليا أو "المجتمع الراقي".
وهم يهمّون بالدخول على الشيخ زوسيما ، لم يكفَّ فيدور وقاحته وسذاجته وكذبه ، وفي كل مرة كان ميوسوف له بالمرصاد ليكرر تنبيهه وتحذيره من مغبة هذه التصرفات الساذجة الحمقاء. قطع الراهب المرافق هذا الجدل المحتدم بين فيدور الساذج وميوسوف المثقف ليُدخلهم إلي الشيخ الأعظم ، ولكن دمتري لم يصل بعد ! ، وما زال إيفان وكالجانوف ملتزمَي الصمت.
وهنا انتهت مشاهد الفصل الأول.
تبدو الإثارة الصفة الأمثل للفصل الثاني "المهرج العريق" وتنبؤ بأن فيدور لن يكف عن سذاجته وحماقته وأنه سيضع الجميع في موقف لا يحسدون عليه ، هذه هي القراءة الأولية وتعالوا بنا نبحر في الرواية.
يبدأ هذا الفصل بوصف لمحتويات الغرفة ومن فيها ، فكان في الغرفة كل من القيّم على مكتبة الدير والأب بائيسي ذلك العجوز الطاعن في السن وذو الباع الطويل في العلم والمعرفة وفتى في الثانية والعشرين من عمره على زاوية الغرفة.
رحب القيّم على المكتبة وبائيسي بالزوار وبعدها بلحظات جاء الأب والشيخ زوسيما بصحبة أليوشا "ألكسي" ابن فيدور ومترهب مبتدئ.
انحنى الرهبان فور وصول زوسيما إلى الغرفة ولامست أصابعهم الأرض في انحناءة احترام عميقة لزوسيما مقبلان يد الشيخ لمباركتهما فباركهما ورد عليهما التحية بنفس القدر من الاحترام.
لكن ميوسوف الليبرالي لم ينحنِ للشيخ ولم يقبل يده للمباركة بل اكتفى بالمصافحة في عزة وهيبة كانت مصافحة رصينة مصحوبة بانحناءة رجالات المجتمع الراقي ثم رجع إلى كرسيه بهدوء ووقار. كان الساذج فيدور يراقب ميوسوف في كل حركاته فقلده في كل حركة من تلك الحركات وفعل إيفان مثلما فعل الذَيْنِ سبقاه ، أما كالجانوف فقد نسي التسليم أساسا!. وفي هذه الظروف أحس أليوشا بالخجل من أهله وذويه وكيفية تصرفهم.
دقت الساعة المزودة بنواس قاطعة ذلك الصمت ولمَّا يصل دمتري بعد!.
بدأ الحوار من فيدور بالتشكي من ابنه دمتري وتأخره في مواعيده وهنا -وكالعادة- كان ميوسوف بالمرصاد فدخلا في جدال طويل نسيا معه أنهما في حضرة الشيخ الكبير ، وبدأ فيدور في اختلاق القصص الواهية ولكن حينما تحدث عن قصة تتعلق بالكنيسة كان بيتر ميوسوف له بالمرصاد مرة أخرى ، فاعترف فيدور بأنه كان يكذب وأن تلك القصة محض هراء ألّفه في تلك اللحظة ، وكان أليوشا ساعتها ناكسا رأسه يكاد أن يبكي من هذا الموقف المحرج مع هذه العائلة الغريبة ، وحدهما فيدور وميوسوف من كانا يتحدثان والبقية صامتون ، بين صمت مترقب للموقف مستقرئ له "زوسيما" وبين حضور شكلي "إيفان وكالجانوف".
اعتذر ميوسوف للشيخ عن حماقة فيدور ولكن الشيخ قاطعه قائلا :
"لا تقلق، أرجوك... هدئ روعك، أرجوك... إن زيارتكم تسرني كثيرا وتبهجني بهجة خاصة".
انحنى ميوسوف للشيخ انحناءة تحية بعدما همَّ أن يخرج لمَّا ضاق ذرعا بفيدور الكذاب ، لكن تصرف الشيخ الحكيم جعله يعود إلى مكانه وكأن شيئا لم يحدث.
اعتذر فيدور للشيخ عن سذاجته ولكن الشيخ أطلق لفيدور العنان ليأخذ حريته فلم يصدق فيدور نفسه ليبدأ مرة أخرى في نسج كذبة جديدة!. ويبدأ فيدور بشكر الرب داعيا لهذا الشيخ ومعترفا بذنوبه السابقة بين يديه.
نجد أن دوستويفسكي يطرح موعظة فلسفية في الصفحتين (109-108) ، حينما سأله فيدور:
"يا معلم ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟".
وهنا تتكشف الشخصية "المازوخية" لفيدور ، فهو يتلذذ بالإهانة والإساءة إلى نفسه.
ولكن ذلك الإنكسار السريع لم يلبث أن تلته كذبة أخرى من كذبات فيدور وهذه المرة كانت الكذبة عن قديس قُطعت رأسه فحملها بين يديه سائرا مدة طويلة وهو يحمل هذا الرأس في دلال على معجزات القديسين ، لكن القيّم على المكتبة كان هو المتصدي لهذه الكذبة التي نفاها نفيا قاطعا.
لكن فيدور الكاذب الخبيث ألصق هذه القصة الخرافية بميوسوف ، ملصقا له تهمة زعزعة إيمانه مدعيا بأن ميوسوف هو من حكى هذه القصة في اجتماع حضره فيدور ، ولكن المصادفة حدثت حين التبس الأمر على ميوسوف فظن أنه حكى هذه القصة فعلا! ، لأنه سمع هذه القصة في باريس حيث أكد له مثقف فرنسي أن هذه القصة موجودة في كتاب "سِيَر الشهداء" وذلك المثقف كان معنيا بدراسة إحصائيات روسيا تعمقا كبيرا.
لعب فيدور على هذا الوتر فاستمر في التباكي والتدليل على التهمة التي ألصقها بميوسوف بأنه زعزع له إيمانه بسبب هذه القصة! ، نهض الشيخ حينها مستأذنا منهم أن يخرج للحظات ليلاقي زوارا له قد سبقوا ميوسوف وفيدور ومرافقيهما. وقبل أن يخرج ، إلتفت إلى فيدور في مرح طالبا منه أن يكف عن كذبه.
وقبل أن يخرج الشيخ إلى الرواق المكتض بالنساء ، قبّل فيدور يد الشيخ معتذرا له عن كذبه ومادحا له على تحمله إياه مدعيا بأنه فعل ما فعله ليختبر الشيخ وصبره -وكانت هذه كذبة أخرى من كذبات فيدور- وهكذا انتهت أحداث الفصل الثاني.
ولأن الفصل الماضي انتهى بمشهد النساء الواقفات على الرواق ، كان متوقعا أن يعنون دوستويفسكي الفصل الثالث عنهن فوُلِدَ لنا نص إبداعي آخر "الفلاحات المؤمنات".
في هذا الفصل تجتمع عشرين فلّاحة ينتظرن خروج الشيخ عليهن ، فمنهن الطالبات للبركة ، ومنهن المريضة ، ومنهن المرافقة لابنتها المريضة، ومنهن المذنبة الطالبة للمغفرة ، وفيهن الأرملة وفيهن الثكلى التي فقدت وليدها.
وهذه الأخيرة أكثر ما أثّر فيَّ شخصيا ، وهي من ركز عليها دوستويفسكي في قرابة الست صفحات في هذا الفصل من الرواية وفيها فلسفة رائعة ومشاعر متأججة ومواساة لهذه المرأة ولمن مرَّ بتجربة الفقد ويقرأ هذه السطور في الصفحات (122-118).
ينتهي هذا الفصل بتوديع زوسيما للحجّاج وتحيّتهم بانحناءة عميقة.
تعود هذه السيدة التي كانت برفقة ابنتها المُقعدة إلى الواجهة مرة أخرى في الفصل الرابع من الباب الثاني الذي حمل اسم "السيدة الضعيفة الإيمان".
كانت هذه السيدة من الطبقة العليا تبكي تأثرا برؤية الشيخ والذي أسرع بدوره إليها سائلا عن سبب بكائها ، فأجابته بأنها متأثرة بما تشاهده على هذا الشيخ من بركة ومعجزات!.
ثم أردفت قائلة بأنه شفى ابنتها "ليزا" من مرضها ، ولكن الشيخ وقف مندهشا فهو يرى تلك الفتاة المدعوّة ليزا ما زالت مقعدة على كرسيها المتحرك! ؛ فبادرت الأم الشيخ بالجواب بأن ليزا كانت مصابة بالحمى ولكن آثار الحمّى اختفت منها حين دعا الشيخ لها في الخميس المنصرم ، بل واشتدت ساقاها وأصبحتا أكثر قوة من ذي قبل فاستطاعت ليزا الوقوف على قدميها ساعة كاملة دون أن تستند إلى شيء!.
طلبت الأم إلى ليزا الوقوف وتقبيل يد الشيخ شكرا وبركة ، فقامت ليزا من كرسيها ضاحكة وفجأة أشارت إلى أليوشا صارخة :
"هو السبب ، هو السبب!".
اكتسى وجه أليوشا حمرة بعدما كانت يتحاشى النظر إلى ليزا وهو واقف خلف الفتاة ، هنا تدخلت الأم لتقول لألكسي "أليوشا" بأن لدى ليزا رسالة تريد منه أن يقرأها.
مدّت ليزا يدها الصغيرة لتصافح أليوشا الذي أصيب بحرج شديد ثم أعطته الرسالة مخبرة إياه بأن تلك الرسالة من "كاترينا إيفانوفنا" وأن كاترينا تطلب منه زيارتها! ، وافق ألكسي على هذا الطلب الغريب في نظره بعد حوار مع ليزا وأمها.
تتبدّى فلسفة الحياة لدى دوستويفسكي في حواره مع أم ليزا في الصفحتين (132-131) ، ثم يتبع ذلك إفصاح أم ليزا عن فقدانها الإيمان ، ولكن فقدان الإيمان هذا ليس نفيا لوجود الله ولكنه شكّ وريبة في الحياة الأبدية ، طالبة من الشيخ أن يُسمعها ما يثبّت إيمانها ويقويه فكان في جواب زوسيما الرد الشافي لها. وفي رد زوسيما تتجلّى صورة رائعة خطّها الروائي الفيلسوف دوستويفسكي (138-133) ، يتلخص في أن على الإنسان أن يسبر أغوار نفسه لتظهر له عيوبها ، ولكن هذه العيوب لن تظهر ما دام يكذب على نفسه!! ، لذلك يجب في البداية أن يكون صادقا مع نفسه ليعالجها من أمراضها. أما الأمر الثاني فهو الحب! ، حب الإنسان لأخيه الإنسان وهنا نجد دوستويفسكي يجعل الحب متفرعا بين حب الإنسانية وبغض أفراد من البشر وبين حب الإنسانية جمعاء ، ثم أردف زوسيما جوابه الطويل بالإستئذان للمغادرة من أم ليزا التي كانت تذرف الدموع ، وتطلب من الشيخ مباركة ابنتها.
ثم يتحول الحوار الرئيس بين زوسيما -الشيخ- والفتاة المشاغبة -ليزا- ليسألها عن سبب إحراجها لأليوشا ، فبادرته بأن أليوشا كان يلعب معها حين كانت صغيرة وكان يعلمها القراءة وقد وعدها آنذاك بأنه لن يتركها أبدا لكنه وبعد إلتحاقه بالدير نسيها تماما ولم يعد يزورهم ، ثم استرْسَلتْ في الضحك على ثوب أليوشا الطويل!.
فاستلمت يد الشيخ لتقبلها وتعتذر باكية عن تصرفها الأرعن معللة ذلك بأنها فتاة حمقاء سخيفة وتستحق أن لا يهتم أليوشا لأمرها ، لكن الشيخ كان عَازَمًا في قرارة نفسه أن يرسل أليوشا إليهم.
لتنتهي أحداث هذا الفصل التي عالج فيها دوستويفسكي قضية الإيمان بشكل رائع يدعونا إلى الرجوع إلى النص لنستلهم منه هذه الرؤية الروحانية للإيمان.
لوهلة تساءلت ،
عن ماذا سيتحدث هذا الفصل؟ ، فعنوانه لا يوحي بالكثير لكنه عنوان مشوق تتلهف لمعرفة ما بعده! ، هذا انطباعي عن الفصل الخامس " لتكن مشيئة الرب".
ولتستمر الإثارة ، وبلا مقدمات أو دلائل على أن إيفان سيكون بطل هذا الفصل بلا منازع ، فقد ابتدأ الفصل بمناقشة حامية جدا بين الراهبين الكاهنين وإيفان فيدوروفتش ، كان النقاش حول المقالة التي كتبها إيفان عن "القضاء الإكليركي" والتي أحدثت ضجة كبيرة وتلّقت اهتماما واسعا ، أما ميوسوف فقد كان مشتعلا غضبا وحنقا على الجميع لأنهم لم يعيروه أي اهتمام! ، بل ولا يجيبه أحد منهم باهتمام مطلقا!.
لاحظ فيدور ما بميوسوف من حنق وغيض ، فراح يستمتع بما يشاهده من تجاهل تام لهذا "المثقف" من قِبَل ابنه والراهبيَن الكاهنين ، الأب بائيسي والراهب أمين المكتبة "يوسف" ، فتعمد الحديث بهمس إلى ميوسوف مشيرا إلى أنه يعلم ما بميوسوف من غيض وغضب بسبب هذا التجاهل ، وأن ميوسوف لم يرحل لأنه يريد أن يثأر لنفسه بأن يبدو الأذكى بين الحضور! ، فقام ميوسوف مشتعلا غضبا ليخرج ولكن فيدور استمر بشيطنته وأصرّ على أن ميوسوف لن يخرج ما لم يثأر وفي تلك اللحظة نفسها رجع الشيخ فجلس كلٌ في مكانه.
صمت الجميع احتراما للشيخ ، لاحظ أليوشا على الشيخ علامات التعب والإعياء ، فوجهه مُصفرٌّ وشفتاه تبيضَّان. ولكنه كان يقاوم تعبه وانهاكه.
إلتفت الشيخ إلى الراهب الكاهن أمين المكتبة "يوسف" ، فقام يوسف بالحديث حينها عن أن النقاش كان حول مقالة إيفان عن القضاء الإكليركي ومدى الصلاحيات التي يجب أن يُعطاها ، وأن أحد رجال الدين قد نشر كتابا ضخما عن هذه المسألة بالذات ، لكن إيفان رد عليه بمقالة نشرها في مجلة.
انبرى أمين المكتبة ليخبر الشيخ بأن إيفان في مقالته ، كان يعالج مشكلة القضاء الإكليركي ، وكأنه حين يعالج تلك المشكلة يدحض مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة.
هنا التفت الشيخ إلى إيفان مستوضحا منه المعنى الذي يفهمه إيفان حول هذه الفكرة ، وبهذا السؤال يبدأ النقاش بين إيفان والشيخ ليصبح الشيخ طرف النقاش الرئيس مع تدخلات بائيسي وميوسوف والأب يوسف.
وأنا أقرأ هذا الحوار ، شعرت بأن دوستويفسكي يطرح رأيه حول هذه المسألة بالذات عن طريق إيفان والشيخ و الراهب يوسف ، بينما كان ميوسوف الشخص الذي يمثل معارضي آرائه ، هكذا بدا لي!.
المهم أن هذا الفصل يناقش قضية العلمانية ، ثم الوثنية التي لحقت بالمسيحية نتيجة لتبني الإمبراطورية الرومانية الوثنية لهذا الدين ، ثم يتحول محور النقاش حول ما الذي ينبغي أن يكون ؛ أن تذوب الكنيسة في الدولة ، أم أن تذوب الدولة في الكنيسة ، أم أن يُخصص للكنيسة جزء بسيط داخل كيان الدولة.
ونجد في الحوار القائم تفصيلا لهذه الأفكار وتفنيدا لها ، ليتحول الحديث في آخر المطاف حول الإشتراكية الإلحادية.
وهنا يَقُصُّ ميوسوف على الجميع قصة حدث له في باريس مع أحد قادة الشرطة السرية الذي يراقبون الإشتراكيين الثوريين ، مشيرا إلى أن هذا القائد أفصح له بأنه لا يخاف من الإشتراكيين الملحدين مثلما يخاف من الإشتراكيين المسيحيين فهؤلاء أشد خطرا من الإشتراكيين الملحدين!. وفي خِضَمِّ حديثه يُلَمِّحُ ميوسوف إلى أن الرهبان والشيخ إنما هم إشتراكيون ثوريون مسيحيون وهو ما فهمه الراهب بائيسي مباشرة ليشتعل غضبا على ميوسوف ، ليقوم الشيخ لحظتها بتوضيح أن ميوسوف أَوَّلَ نقاشهم بصورة خاطئة ونفى فكرة أنهم اشتراكيون مسيحيون ليقطع هذا النقاش المحتدم الشاب "المَنْسِيُ" أعني بذلك دمتري!.
لينتهي هذا الفصل بدخول دمتري ، فما سيحدث بعد ذلك؟
هذا ما نترقبه بشدة في الفصل السادس.
للأمانة ؛
لم أتخيل أنني سأكمل الرواية بعدما قرأت الفصول الخمسة الأولى ، فقد أحسست بأن دوستويفسكي مثل أي روائي كان ، بل هو روائي تقليدي محض (Classic)!.
إلا أنني وأثناء قراءتي للفصل السادس شعرت برغبة مُلِحَّة في إنهائه ، ولم أقم بتلخيص ما حدث في ذلك الفصل ، فسحر دوستويفسكي بدأ يظهر هنا! ، لم أستطع ترك قراءة الرواية لأعرف ما سيحدث في الفصول السادس ، السابع والثامن.
فانطلقت أقرأ بشراهة عجيبة تجلّت فيها الموهبة الروائية العجيبة لهذا الكاتب الفذ! ، وها أنا ذا ألخص الآن ما حدث في الفصول الثلاثة الماضية وأعلم تمام العلم أن الفائدة تكمن في قراءة النص الأصلي للراوي بعيدا عن أي تلخيص ورؤية أخرى ، لذلك أعتذر من القارئ الكريم إن سهوت عن تفاصيل مهمة بسبب عدم التلخيص المباشر للفصول بعد قراءتها ، علما أنني سأحاول جاهدا الوصول إلى التلخيص الأكثر صحة وصوابا.
الفصل السادس " لماذا يجب أن يعيش هذا الرجل؟!" ، قرأت العنوان فعلمت أن فيدور هو المقصود بلا شك ، ولكن دوستويفسكي بدأ الفصل بوصف للملامح الجسدية والنفسية لدمتري فيدوروفتش أو كما يُسمى "ميتيا".
اعتذر دمتري عن تأخره للجميع ، وأفصح عن سبب تأخره وهو أن خادم فيدور قد أجاب على سؤاله بشأن موعد الإجتماع مرتين اثنتين مؤكدا أنه في الواحدة ظهرا.
هدّأ زوسيما من روعه وطلب منه الجلوس فجلس في الكرسي المجاور للراهب بائيسي ، تغافل ميوسوف سؤال الأب بائيسي الذي كان امتدادا للحوار السابق والذي انتهى عنده الفصل الخامس من الباب الثاني للرواية ، وطلب من إيفان أن يجاوب ويوضح بدلا منه.
فتحدث إيفان عن الليبراليين وخلطهم بين الأهداف القصوى للإشتراكية وبين الغايات التي تسعى إليها المسيحية ، فلم يعجب ميوسوف ذلك.
وراح يقص عليهم قصة أخرى ، ولكن القصة هذه المرة عن إيفان فيدوروفتش!.
وهي أن إيفان كان قد دخل في حوار عن حب الإنسانية وعلاقتها بالخلود وأن حب الإنسانية موجود ما دام الخلود موجودا ويؤمن به الإنسان ، أما الملحدون فهم يرون أن الجريمة مباحة وأنها المخرج المعقول الذكي!.
وحينها يدخل دمتري في النقاش ويصمت بعد مداخلته مباشرة ليأتي الدور على الأب بائيسي ، ثم يولد نقاش آخر بين زوسيما وإيفان ليعترف الأخير بصدق ما قاله ميوسوف ليكون النقاش بين زوسيما وإيفان أكثر إثارة وتشويقا مع مرور الصفحات.
ينتهي النقاش بين زوسيما وإيفان ، ليقفز فيدور ويمثل دور المسكين فيُثني على إيفان الذي يحترمه جدا ويذمّ دمتري بكلام يستثير الأخير وهو ما يجعله غاضبا أشد الغضب.
ولأن فيدور دأب على الطبع اللئيم ، فقد اتجه إلى ميوسوف مخاطبا له متهما إياه بعدة تهم ليعود مرة أخرى إلى دمتري ويزيده غيضا فوق غيضه بسبب الكلام الاستدراجي الذي يُطلقه فيدور.
فقد ركّز فيدور طاقته على قصة عن خطيبة دمتري "كاترينا" وامرأة تُدعى "جروشنكا" في حوار طويل جدا لا يسعني إدراجه هنا.
كاد الابن -دمتري- أن يهجم على أبيه من شدة الغضب بسبب ما يقوله الأب عن خطيبة دمتري وجروشنكا ، وهو ما جعل فيدور يستغل الفرصة ليدلل على أنه مظلوم بسبب ولده -الوغد- الذي لا يحترم أباه أبدا!.
امتعض الجميع مما يحدث أمامهم من مسرحية هزلية بطلها فيدور والذي يمثل دور المسكين! ، ليُطلق الجميع تأففاتهم وتقززهم من هذا ال"فيدور" ، ليختتم بعدها هذا -البطل- مسرحيته بطلب المغفرة من زوسيما ، ولكن بطريقة ملتوية!. ليدخل فيدور مع الأب أمين المكتبة أعني "يوسف" ، في جدال طويل حول مغفرة المسيح لتلك المرأة التي أحبّت وهل غفر المسيح لها لأجل الحب أم لأجل أمر آخر!. {وهي المرأة الخاطئة المذكورة قصتها في (إنجيل لوقا ، الإصحاح السابع ، 47) }.
فقد الشيخ المسكين قواه أعني "زوسيما" ، فاستأذن من الجميع في المغادرة للراحة ولكنه فعل شيئا جعل الجميع في حيرة من أمرهم ، حتى الرجل الذي فعل له ذلك الأمر!.
وكان ذلك أن الشيخ زوسيما ركع على ركبتيه أمام دمتري فيدوروفتش ليحيي دمتري لدرجة أن جبينه لامس الأرض!.
دُهش الجميع لما رأوه أمامهم وحاروا في تفسير ذلك ، ليقطع لحظة الصدمة تلك استئذان الشيخ زوسيما وخروجه برفقة أليوشا ، ولكن ما إن خرج الشيخ من صومعته حتى ظل الجميع جامدين حائرين في سبب هذا الركوع وتفسيره! ، ولماذا دمتري بالذات؟؟؟.
في تلك اللحظة بالذات شعر الجميع بفظاعة ما فعلوا ، فقرر ميوسوف أن يعتذر عن حضور الغداء ، وكذلك فعل فيدور ، لكن فيدور أصرَّ على ميوسوف أن يحضر المأدبة وهو من سيتخلّف عنها لأنه السبب في كل ما حصل! ، فقبل ميوسوف ذلك وذهبوا جميعا برفقة ذلك الراهب إلى حجرة الأب كبير الرهبان ، وقبل أن سنصرف فيدور إلى عربته ؛ أوعز إلى ابنه "إيفان" أن يحضر المأدبة. كانوا سائرين إلى مكان المأدبة عدا فيدور الذي اتجه إلى عربة أحصنته ، لينتهي الفصل السادس بحوار بسيط ومقتضب بين ميوسوف وإيفان حول ما حدث من قِبَلِ فيدور.
ولأن أحداث القصة متسلسلة ، كان من السهل توقع أن عنوان الفصل السابع "طالب اللاهوت الوصولي" سيتحدث عن واحد من اثنين ؛ أليوشا أو راكيتين.
بدأ الفصل بمرافقة أليوشا لزوسيما إلى المهج وإجلاسه إياه على السرير بعد ذلك اليوم الشاق ، خاف أليوشا على شيخه وطلب منه الجلوس معه ، فلم يوافق الشيخ على ذلك وأصر على أليوشا أن يلحق بعائلته إلى الغداء خوفا من تفاقم الأمر ، ولكن الشيخ طلب من أليوشا طلبا صادما له! ؛ طلب منه أن يترك الدير فور وفاته ، فارتعش أليوشا من طلب شيخه وابتدأ حوار رائع من روائع دوستويفسكي الخالدة بين الشيخ وأليوشا في الصفحتين (176-175).
خرج أليوشا من عند شيخه متجها إلى الغداء ، وفي طريقه التقى صدفة براكيتين الذي كان واقفا في مكانه وكأنه ينتظر أحدا ما.
لتتبدى أخيرا الصفات الشخصية لهذا الشاب راكيتين ، ولتظهر ملامح حقده وحنقه على عائلة "كارامازوف" عائلة أليوشا وأهله ، ويستمر الحوار بينهما ليظهَر ما كان يخفيه هذا الشاب من أمور يعرفها جيدا عن هذه المدينة وعن عائلة كارامازوف تحديدا فيصدم أليوشا به ويُصعق أليوشا من هذا الشاب الذي اعتبره صديقا له! ، ويستمر الحوار الطويل بين أليوشا وراكيتين (188-176) ، أي منذ لقاء راكيتين بأليوشا وحتى نهاية الفصل وهذا الحوار الطويل الغامض بينهما مستمرا.
انتهى الفصل بملامح فضيحة تَبَدَّتْ في الأفق حين رأى كل من أليوشا وراكتين ميوسوف راكبا عربته ، وماكسيموف الإقطاعي يركض جهة والد أليوشا "فيدور" ،والأب أسيدور على درجات المدخل يصيح لإيفان وفيدور بكلام ما ، والأدهى من ذلك كله ؛ أن فيدور يلوِّح بيده ويبدو جليا أنه يكيل الشتائم!.
فضيحة ويالها من فضيحة! ، فماذا سيقع في الفصل القادم؟.
ومن يقرأ عنوان الفصل الثامن "فضيحة" ، يدرك مباشرة أنه خاص بتوضيح ما كان مُبْهَمًا في الفصل السابق ، فلنر ما سيحدث في هذا الفصل.
وصل ميوسوف وإيفان فيدوروفتش عند رئيس الدير ، وتغيرت الحالة النفسية لميوسوف الذي تنفس الصعداء على اعتبار أن فيدور لن يحضر وأنه ذاهب إلى منزله.
قرر ميوسوف أن يكون ليِّن الجانب ، وأن يحاول استمالة الرهبان إليه حتى ولو كلفه ذلك التنازل عن بعض كبريائه. وقرَّر أن يتنازل عن حقوق قطع الأشجار وصيد الأسماك وتلك القضايا العالقة بينه وبين الدير بسبب الخلاف على أراضيه.
مضى كل شيء بسلام ، وتَحَلَّقوا حول طاولة المأدبة في صفاء وراحة بال.
مضى دوستويفسكي يشرح ما حوته غرفة الطعام وما جاورها من غرف وما كان حاضرا من أطعمة في تلك اللحظة ، مع ملامح إضافية عن راكيتين -الفضولي- الذي كان يعلم ما بمأدبة الطعام تلك من أطعمة.
بدأ الحديث مع ميوسوف وإيفان من قِبَلِ رئيس الدير وبلَّغهم أسفه لتغيُّب فيدور عن هذه المأدبة ، بدأت تلاوة الصلوات قبل الشروع في الأكل وهمُّوة بالأكل إلى حدث ما لم يكن في الحسبان!.
ظنَّ الجميع أن فيدور المزعج قد رحل بعيدا وأنه لن يجيء إلى المأدبة ، ولكن فيدور أحس بأنه فقد كرامته وأنه لا بد وأن يثأر لنفسه ، فأخرج من جعبته آخر مكيدة وعزم الذهاب إلى غرفة رئيس الدير التي كانت تحتضن المأدبة.
وقبل الوصول إليها وفي طريقه إلى حيث يجلس البقية ، عَرَضَ لنا دوستويفسكي ما كان يجول بخاطر فيدور من أفكار ، وما كان يتذكره من أحداث مشابهة حصلت له في حياته ، وكيف ينوي التصرف في خطوته القادمة.
أسرع فيدور في الدخول على الحضور ، وأطلق ضحكة خبيثة مدوية ، ثم أردف قائلا :
"ها... لقد ظنوا أنني انصرفت... فها أنذا أعود!".
اتجهت إليه أنظار الجميع في صمت مطبق ، وشعروا بأن قنبلة موقوتة ستنفجر في هذا المكان المشحون! ، وفيدور على وشك تفجيرها..
صاح ميوسوف في وجه فيدور معترضا وممتعضا مما يحدث ، وعنَّفَهُ على عودته تلك ، العجيب أن رئيس الدير سمح لفيدور بالجلوس ويبدو أنه لم يعلم بعد بما فعله فيدور في صومعة الشيخ زوسيما!.
جلس فيدور معهم وبدأ بالاستهزاء من المالك ماكسيموف واصفا إياه بأنه "فون سون" ول"فون سون" هذا قصة عجيبة لا يتسع المقام لذكرها.
بدأ فيدور بتفنيد ما حدث في صومعة الشيخ زوسيما ، ثم أطلق لنفسه العنان ليتحدث عن ما صادفته من مواقف محرجة أخرى ، بل ومخزية أيضا!.
ثم بدأ في الهجوم على الرهبان ، واصفا إياهم بالمنافقين الذين يأكلون أموال الناس بالباطل وإلا فمن أين لهم ذلك الطعام النفيس وهم يدّعون الزهد والتقشف!.
غضب الأب يوسف -وبلا شك- ميوسوف وبقية الحاضرون مما يحدث من استهزاء بالكنيسة وأربابها ، واضعا تساؤلات مهمة لكنها تجرح كبرياء الكهنة والرهبان.
ثم أغرى ماكسيموف بأن يذهب معه بطريقة فيها من الغواية الشيء الكثير ، ليخلع ماكسيموف عن نفسه ثوب التُّقى ويطلق لنفسه العنان فيتبع فيدور إلى عربته.
بعد خروجه من غرفة الطعام ، صرخ فيدور على ابنه أليوشا بأن يلحق به إلى المنزل ويأخذ وسادته وفراشه وأن لا يعود إلى الدير نهائيا ، صُدم أليوشا من طلب والده ولكنه شرع في تنفيذه مباشرة.
وكله أمل ورجاء أن تكون تلك مجرد فورة غضب وما إن تخمد نار الغضب تلك حتى يسمح له بالعودة إلى الدير.
سارت العربة التي تحمل فيدور وابنه إيفان و ماكسيموف في طريقها ، وتبادل الأب وابنه بضع كلمات لينتهي الباب الثاني بمشهد دراماتيكي لن يشعر به من لم يقرأ الرواية ليعيش تلك الأحداث ، فهذه القراءة للرواية لا تعدو كونها تلخيصا بسيطا يتغاضى عن كثير من الجزئيات المهمة التي لا غنى عنها لتكوين صورة شاملة عن الرواية وأحداثها.
بقلم:
علاءالدين الدغيشي
Instagram:
@Eagle_eyes_
Facebook :
علاء الدين الدغيشي
twitter:
علاءالدين الدغيشي
تلخيص رائع ، رغم انها لم يذكر فيها بعض التفاصيل مثل ما قلت ، إلا ان هذا التلخيص يجعل من القارئ وكأنه يعيش أحداث الرواية
ردحذف..
وأتمنى في أن تلتزم بإسم واحد لكل شخصيه ولو أن الكاتب ذكر اسمين لبعض الشخصيات حتى لا يشوش على القارئ . تقبل مروري
شكرا لوجودك هنا
حذفوالتفاصيل الحقيقية للرواية أهم بكثيييييييييييير من هذا التلخيص البسيط
أما ملاحظتك الأخيرة فهي جميلة وسأعمل بها بإذن الله