حفريات في الأدب والنفس | 13 مارس 2025
حين يتساءل امرؤٌ عن الخلود، فإنني أفهمه باعتباره المثول الدائم في الألسن والذاكرة والحياة؛ وكما
خص الله أنبياءه باصطفائه لهم، فقد انبرى للتاريخ رجال لا قبيل لهم بالنبوة
الإلهية ولا نسب، بل كان خلودُهم خلودُ من اقتبس من الشعلة الإلهية قَبَسًا ظل
ينير الدجى رَغم تعاقب الأحقاب وتصرّف الدهور. ومتى ذكرنا الخلود -في غير
الأنبياء- نجد الشعراء ينبرون حاملين شعلة خلافة الأنبياء، كيف لا!؛ وهم الذين إذا
ما أراد امرؤ أن يستشهد بقول بعد قول الأنبياء والكتب السماوية، نجده يستشهد بأقوالهم
وأشعارهم التي تتصدر الذاكرة والمشهد. في الفرح والبهجة والسرور، وفي المصائب
والفواجع والنوازل.
وإذا ما ذُكِرَ
الشعر كموضوعٍ يومي، وحاجة يومية نعيش بها، لن نستطيع أن نذكره دون أن نذكر
المتنبي، سيِّد الشعر والشعراء. وأقول هذا لأنني لم أجد شاعرا يستشهد به الإنسان
البسيط والمثقف على السواء في أفراحهم، وفي أتراحهم، وفي تفاؤلهم وتشاؤمهم، وفي
سخريتهم حتى، وفي أحالوهم المختلفة؛ أكثر مما يفعلون مع أبيات المتنبي
وقصائده. فقوله
ما مُقَامِي بِأرضِ نَخْلَةَ إلَّا
كَمُقَامِ المسيحِ بينَ اليهودِ
يثير الفكاهة والضحك، مع الاعتراف ببراعة التوصيف. فهو يسخر من القوم
المقيم بين ظهرانيهم، ويتبرأ منهم تبرؤ الذئب من دم يوسف، حيث يعتبر نفسه فوقهم
منزلةً رَغم بقائه ومكوثه معهم. وكما هو معلوم، فإن السيد المسيح عليه السلام كان
يهوديا، ولكن الله اصطفاه من بين اليهود؛ فهو يهوديٍّ ولكنه ليس كاليهود الذين عاش
بين ظهرانيهم وانتسب إليهم، بل هو أعلى وأرفع منزلة وشأنًا. ولكنني وفي مشروعٍ
بدافع البحث الذاتي والاستكشاف، مستعينا بالأدوات التقنية الحديثة؛ تساءلت عما قد
أجده عند المتنبي حين يتعلق الأمر بالعلوم الحديثة كعلم النفس -وهو الذي كتبت حوله
مقالة سابقة في جريدة عمان بعنوان بين المتنبي وكارل روجرز!، في العام المنصرم- وقد
حاولت حصر الأبيات الشعرية التي تتعلق بعلم النفس بشِقَّيهِ في
الأفعالِ، الإراديِّ، واللاإرادي. بعبارة أخرى، تلك الأفعال الظاهرة البيّنة التي
نفعلها بقصد وعن وعي حر كامل، والأخرى التي نفعلها بغير قصد وإرادة منا، وإنما
دوافعها داخلية قد نستطيع رصدها، وقد تتمنع على الرصد. ومن فائق براعته، أنه جمع الأفعال الإرادية واللإرادية
في بيت واحد حيث يقول
إذا اشتبكَتْ دُموعٌ في خُدودٍ
تَبَيَّنَ مَن بَكَى مِمَّنْ تَبَاكَى
فقد جمع بين الفعل
اللإرادي السمح الذي لا نتحكم به ولا نستطيع إمساكه أو إرساله وهو البكاءُ ابتداءً
ودونَ تكلُّفٍ. ثم يذكر الفعل الإراديَّ الذي نتحكم به تماما ونقرر فعله أو
الإحجام عنه وهو التَّكلُّفُ بالبكاء -التباكي- كما في الشطر الثاني من البيت. وفي
ذات الموضوع يقول
فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها
إِذا كُنَّ إِثرَ الظاعِنينَ جَوارِيا
ومعنى البيت؛ أن الدموع تجري دون أن يستطيع
المرء التحكم بها في مواقف معينة. فالمرء يغالب نفسه ويحاول إلجامها عن أن تغدر به
وتخون إرادته ومشيئته، ولكنه لا يمسكها وتنفلت منه انفلاتا غير مقصود. فهو لا يريد
البكاء على الظاعنين -أي الراحلين- ولكنَّ عينيه تخونانه وتسبلان دموعهما رَغمًا
عنه.
وقد قارنت بين نسختين لديوان المتنبي، إحداهما
نسخة عبدالرحمن البرقوقي، والأخرى لرهين المحبسين، أبي العلاء المعري وهو شرحه
الكبير "مُعجِز أحمد"؛ وقد وجدت له -المتنبي- أكثر من ستة آلاف بيت نرصد
فيها التشابهات والتقاطعات مع علم النفس الحديث، وربط تلك الأبيات بالمدارس
النفسية الحديثة والمشهورة، بل إن عدة الأبيات التي وجدتها تقارب السبعة آلاف بيت
في رصد أوليٍّ. فمن علم النفس التحفيزي، إلى علم النفس القيادي، إلى علم النفس
الوجودي والسلوكي والاجتماعي، فضلا عن علم النفس الإيجابي الذي تحدثت عنه في
مقالتي السابقة في المقارنة بينه وبين كارل روجرز.
إن هذا البحث البسيط، وبأدوات أولية؛
يجعلنا نقارب العلوم العربية وأعلامها ونعيد اكتشافهم واكتشاف آثارهم بعدسة جديدة
وغير معتادة. وقد تحدثت غيرما مرة عن كتاب مسكويه "تهذيب الأخلاق" وتلك
العبقرية النفسية التي فيه وتلك التوصيفات والعلاجات التي تذهل المرء من عبقرية
راصدها في وقت مبكر جدا من التاريخ. ومما يذكرني بكتاب مسكويه -يسميه البعض ابن
مسكويه- هو كتاب الشيخ الرئيس ابن سينا. فقد وجدت في كتاب ابن سينا
"القانون" في الطب توصيفه لأمراض نفسية حديثة كالاكتئاب الذي يفرد له
فصلا في موسوعته البديعة "فصل في المالنخوليا"، ونجد اتفاقه مع مسكويه في بعض الآراء
والتوصيفات والعلاجات حتى. وفي العموم، فإنَّ زُهدَ الناس في تراثهم العريق، زهدٌ
نابعٌ مِن إحساسٍ بالنقصِ ومِن جهلٍ مُتجذرٍ، ولا نجد أمةً ارتفعتْ وعلا شأنُها
وشأوُها إلا برفعها لعلمائها وكبارها والاعتراف بفضلهم ومكانتهم والاهتمام بآثارهم
ودراستها مرةً تلوَ مرة؛ فقد تتغير الأسماء وتتبدل التوصيفات، لكن حقيقةَ الأشياء
وجوهرها هيَ هيَ، وكأنما هِيَ نظريةُ العَودِ الأبديِّ تُشير إلى جهلنا بسخريةِ
العارفِ البصيرِ، وحكمةِ القديمِ القدير.
https://www.omandaily.om/article/1174859
تعليقات
إرسال تعليق