رواية يوم القيامة! | 10 مارس 2025






يظن المرء وهو يقرأ الكتب القديمة ذاتها، ويرى تأثيرها في الناس والثقافة والحياة؛ أنه لن يأتي كتاب بعدها يغير التاريخ، أو يكون نقطة فاصلة لا يمكن تجاوزها في المعرفة المكتوبة. ورواية اليوم إحدى هذه الكتب التي أجمع الناس على أهميتها وبراعة مؤلفها الفذ في استشراف المستقبل، حتى ليكاد المرء يحسب أنه سافر عبر الزمن ثم عاد إلى زمنه لا لشيء، إلا ليكتب روايته هذه، ويصيح بأعلى صوته، رأيتُ المستقبل!. ارتبط كائن آخر برؤية اليوم الآتي من الحياة، رغم أن الأيام التالية لظهور هذا الكائن ليست من الأيام المحببة على الإطلاق، فهو ينذر بالكوارث البيئية الآتية بُعيد رؤيته؛ وهي سمكة يوم القيامة.


تمثل رواية اليوم بديلا موازيا لسمكة يوم القيامة في الأدب العالمي كله، فمؤلفها جورج أورويل -كما ألبير كامو- ولد في مستعمرة بلده الأم بريطانيا، في الهند الاستعمارية آنذاك. وبدا أن حياة الضابط -والصحفي والناقد السياسي فيما بعد- تسير بوتيرة جيدة في سبيل التمتع بخيرات بلاد ليست بلاده، وثروات لا ناقة لبريطانيا لها فيها ولا جمل سوى أنها القوة التي تتحكم برقاب الناس في تلك البقعة الجغرافية من العالم التي كتب لها القدر أن تكون ضعيفة في تلك المرحلة المظلمة من التاريخ. تنقّل مؤلفنا في الوظائف، وكعادة أي إنسان حر؛ لا يستطيع المرء أن يعارض ما يختلج في نفسه ويسيرَ عكس النهر الكبير للروح. فلم يقدر أن يكمل حياة الانتفاع من أموال الاستعمار ومنافعه، في حين أن الشعب المُستَعمَر يرزح تحت نير الاحتلال والاستعمار المقيت، في وضع وحالة لا يمكن أن يوصف المستَعمِر والمُستَعمَر بنفس التوصيف وبغير تفريق بينهما فنقول بأن كليهما إنسان!.


أما وجه الشبه بين الرواية والسمكة المعروفة أيضا ب"نذير الهلاك"، أن هذه السمكة مرتبطة في الوعي الجمعي لعدد من الشعوب بأنها النذير الأولي لحدوث كارثة طبيعية ليست ببعيدة، كالزلازل والبراكين والأعاصير وغيرها، وهي ما أضحت فيما بعد خرافة عالمية يترقبها صائدو الكوارث الطبيعية، ويستدلون بها على المصيبة التي تطرق أبواب الدولة التي ظهرت فيها هذه السمكة. كذلك رواية أورويل، فهو يخبرنا في عهد مبكر بالمآل الذي ستؤول إليه الأمور في الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية التي لا يأمن أحد فيها ابنه أو أخيه الذي سيقدمه قرابنا وعرفان ولاء للدكتاتور إن رأى فيه ما يثير الريبة، أو شم فيه ما يدل على نظام عقلي يحاول مكافحة الهدير الهادر لوسائل التضليل التي يتحكم بها الديكتاتور المعروف في الرواية باسم "الأخ الأكبر".


تحمل الرواية طابعا سياسيا تراجيديا، فأسماء الوزارات التي سماها أورويل بنقيض تأثيرها أو عملها، فوزارة الحقيقة هي البديل لوزارة الإعلام التي يبث منها الديكتاتور دعايته المضللة، ووزارة السلام هي المختصة بشؤون الحرب، ووزارة الحب هدفها التجسس والتعذيب والترويع والترهيب، ووزارة الوفرة هي وزارة الاقتصاد الذي يجب أن يعيش فيه الجميع بالحد الأدنى الذي يضمن بقاء أجسادهم حية قادرة على العمل والكدح في سبيل "الأخ الأكبر". لن يستطيع المرء وهو يقرأ هذه الرواية أن لا يسقطها على بعض الطغاة الذين جرفتهم أمواج الحياة، وبعضهم الذي نراه عيانا اليوم. بل لن يستطيع أن يقرأها -والحال هذه- بمعزل عن حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال بحق شعب أعزل. فالعبارة التي صارت علامة وأيقونة مرتبطة بالرواية "الأخر الأكبر يراقبك"، نجد نموذجها التطبيقي في القدس المحتلة وفي الضفة كذلك. فقبل سنوات -وفي العام 2018 تحديدا- أعلنت منظومة الاحتلال تنفيذها مشروع "عين القدس"، "الذي يتضمن تركيب 500 كاميرا مراقبة ذكية جديدة في أنحاء مختلفة بالمدينة المقدسة المحتلة" كما أوردت أسيل جندي في مقالتها في موقع شبكة الجزيرة الإعلامية. من يقرأ رواية أوريل، سيصعق وهو يقرأ هذه القطعة من المصدر نفسه "وتختلف جودة وإمكانيات الكاميرات الذكية من جيل إلى جيل -حسب غوشة- ويمكن للحديثة منها أن تظهر ما كتب على قصاصة ورق يحملها شخص أثناء سيره، كما يمكنها التعرف على بصمة العين ورصد لوحات المركبات بالشوارع واختراق الزجاج الأسود الموجود على بعضها". فهي تتطابق مع ما ذكره أورويل في روايته عن الكاميرات التي تراقب كل شيء، حركة العين، الإيماءة، تشنجات الوجه، فضلا عن الكلام!.


من يقرأ الرواية سيلاحظ بأنها تخيّل عمّا سيكون عليه الحال لو أصبحت الدولة تحت قيادة الشر المطلق، ولكن المؤلف لم يكن يتوقع بأن روايته ستكون واقعا معاشا لشعب من الشعوب في يوم ما. يحسب له أنه رأى مآل الأمور في فترة لم يبلغ التقدم التكنولوجي فيها عُشر معشار ما عليه الأمور اليوم. يعلو صوت المفكر في الرواية كثيرا، وتظهر بين الصفحات العبقرية السياسية والنقدية لأورويل. فهو يتحدث عن دور الديكتاتورية في صنع الذاكرة الشعبية أو محوها وفق التحالفات والعداوات، يتحدث عن تغير المصالح وتبدلها، عن عذابات النفس والجسد، عن تغير العقائد في السِّلم والتعذيب، عن المتناهي واللامتناهي في الحياة والسياسة والعمل، عن الخيبة والانكسار واكتشاف الخديعة. إنها عمل خالد بامتياز، عمل يُشعرك بعظم المآسي في التاريخ البشري، عمل يخبرك عن النقيض، عما يحدث في الحياة اليوم وفي الساحة السياسية والجغرافية. إنه يخبرك عن البشاعة أيضا، ولن يستطيع المرء أن يقرأها بعد أحداث غزة الأخيرة، وبشاعة الاحتلال وجرائمه، كما كان يقرؤها من قبل. وكمثال على ذلك "..وإذا ما كانت كل السجلات تذكر نفس الحكاية، عندئذ ستدخل هذه الكذبة التاريخ لتصبح حقيقة واقعة. ..إن من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي". صحيح أن رواية "1984" لجورج أورويل كتبها عام 1949م، لكن وبسبب هذا بالذات لو كان له أن يعود إلى الحياة ليوم واحد فحسب، فسيصيح بأعلى صوته "رأيتُ المستقبل!"، لكنه لن يكون سعيدا بالطبع، فما أسوأ أن يريد المرء تنبيه الناس من المصير المظلم؛ ثم يراهم يتساقطون فيه كما لو كانوا يقادون دون بصيرة أو بصر. من الجدير بالذكر أن الرواية الشهيرة الأخرى لأورويل "مزرعة الحيوان"، ترجمها الروائي والأديب العماني محمد عيد العريمي في إحدى ترجماتها المميزة.


https://www.omandaily.om/%D8%B1%D9%88%D8%B6%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%A7%D8%A6%D9%85/na/%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A9-%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%8A%D8%A7%D9%85%D8%A9

تعليقات

المشاركات الشائعة