العيد.. وعلاقتنا بالزمن والحياة | 27 مارس 2025
يأتي العيد كحدث
استثنائي يبتهج له الجميع، حدث يجعلنا ننسى لبرهة معنى الحياة السريعة بكدحها
وكدها وآلامها، فهو فرصة لالتقاط الأنفاس وفرصة لأن ننظر إلى أنفسنا في مرآة الذات
والمصير؛ لا لأجل المنظر وحده. يمثل العيد بالنسبة إلي مشهدا سورياليا بديعا، فلا
تجتمع البلاد في بهجة غامرة عامة وبترقب وإشراق كما تفعل في العيد، فهو برهة من
الزمن نعم، لكنه ليس كأي زمن. لطالما رددنا "مرت السنين!" في دهشة وذهول
ونحن نتحدث عن حدث مر وانقضى قبل سنوات فنبعثه ونستحضره من الذاكرة. ولكن؛ لماذا
نظن بأننا بمنأى عن تلك اللحظة التي نقول فيها "مرت السنين.." بشيء غير
قليل من الشجو والشجون؟ ولماذا لا نستشعر السبب الذي يجعلنا نقولها؟. أدركت مؤخرا
حين ودعت عاما آخر من حياتي معنى تلك العبارة والدهشة المصاحبة لها، فلو أن أحدا
طلب مني أن ألخص حياتي لما استطعت إلى الإمساك بها سبيلا، فهي كما السراب المنفلت
بسرعة البرق، أو هي أسرع.
يذكرني هذا ببعض
الكتب التي قرأتها في الطفولة، وهي كتب الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد، التي
كانت فيما يشبه السيرة الذاتية له. "أنا"، "خلاصة اليومية
والشذور" و"حياة قلم"، وهي ككتب العقاد الأخرى؛ طافحة بالفكر القوي
المحض الذي يُلبسه لبوس الأدب اللذيذ. فهو يخبرك عن حياته وحالته بصدقٍ يرى فيه
البعض جفاء وغلظة، بينما اختار صاحب العبقريات أن يكون على سجيته في كتابته كما في
حياته. ولا أذكر نص كلامه في إحدى هذه السير التي كتبها، ولكنه يقول فيما معناه
بأن المرء يتغير بتغير عمره والزمان الذي مضى منه. فمن كان في الخمسين يخجل من أن
يرد من يجيئه بغير موعد وفي غير مناسبة، وقد لا يفعل ذلك في الستين من عمره؛ حتى
إذا بلغ السبعين، واستوت عنده التجارب وذاق من الدهر حالتيه، لم يجد حرجا في
القبول والرفض، والرضا والسخط وإبداء ذلك كله في أدب وفي غير شطط. ومرد ذلك إلى
حالته المزاجية وقدرته الجسمانية التي لم تكن كما كانت بالأمس، وعلمه بأن لحظة
الغروب آتية عن قريب، فهو يختار ما يريحه ويبهجه ويسعده في عمره الباقي وأيامه
المعدودة.
العقاد شأنه شان
المتنبي وطه حسين والتوحيدي وغيرهم؛ ولا يجمع هؤلاء سلك ناظم امتازوا به دون سائر
الناس، بل إن ما يجمعهم هو ما شغلوا به الناس في أمرهم، والحقَّ أن الناس هم من
اشتغلوا بأمر هؤلاء وتنازعوا في شأنهم وحالهم ومآلهم وقالوا فيهم فأكثروا القول في
غير تثبت وبغير ميزان. ولكننا جميعا دون استثناء، المحب والشانئ على السواء؛ لا
نستطيع إطلاقا أن ننكر أثرهم في تاريخنا وحياتنا، بوعي منا أو بغيره.
ومن سخرية القدر
أنني كنت أود الحديث عن قصيدة المتنبي التي أسر بها مصر فغدت رهينة لحزن قصيدته
"عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ"، فلا يأتي
العيد إلا ويتذكر من يستحضرها آلامه وهمومه، حتى لكأن القصيدة نوع من بكائه
الداخلي ورثائه لنفسه، فلا يرى فيها قصيدة لشاعر مات قبل ألف سنة؛ بل يبكي روحَه
وحياتَه هُوَ. رغم أنه ينسى أمرا في غاية الأهمية؛ وهو أنه لم يكن ليقرأ القصيدة
لو كان ميتا!، فكيف ينسى المرء أنه حي؟ ولماذا يتعامل مع حياته وكأنه فاقد للحيلة
مسلوب الإرادة؟. ما يجعلنا لا نشعر بقيمة الزمن، أننا نتعامل معه
تعاملا ماديا؛ فنحن نقيس الزمان وجودته بالإنجازات التي حققناها، وهي في حقيقة
كثير منها ليست سوى إرضاء لحاجتنا الداخلية للإحساس بالقيمة. بينما نستشعر القيمة
الحقيقية للزمن، فقط حين نخسر ما خسرناه ولا يعود للندم عائد أو فائدة.
تعليقات
إرسال تعليق