قراءة التاريخ وعلاقته بالواقع (رفاهية أم ضرورة؟) | 12 يونيو 2025

قراءة التاريخ وعلاقته بالواقع

رفاهية أم ضرورة؟




حين طلب مني الأصدقاء من إحدى المنصات أن أكتب المقالة الافتتاحية لمشروعهم التنويري النبيل، تقافزت أمامي كل الكتب والمقالات والقصص والمقاطع اليومية، لم يكن ما يتقافز أمامي كلمات أو حروفا؛ بل مصائر أناس يعبث بها ساسة انتقلوا من الاهتمام بالمصير الجمعي، إلى النفع الشخصي، فترّدت أحوال الناس -الصعبة أساسا- وبدأت تفقد الدول هويتها الراسخة وتذوب في الهويات الجديدة، ليقف المرء أمام حضارة ضاربة في القدم متسائلا بذهول يشبه ذهول المجنون الذي لا يصدق ما تراه عيناه "أهذه حضارة كذا وكذا؟ أم مسخا سينمائيا مصغرا؟". إنني أشبّه الأمة بالأرض والشجر، فالأرض الطيبة الخصبة تنبت النباتات النافعة للبلاد والعباد، ولكنها لا تخلو من الحشائش الضارة التي يواظب المزارع المجتهد على اقتلاعها. وليست كلمة الاقتلاع هنا مجازيَّةً؛ لأن الحشائش الضارة -كما هو معروف عند أهل الزراعة- كالهيدرا ذات الرؤوس التسعة، تتكاثر إن تم تقليمها، لكن نسبة الخلاص منها عالية إن حرص المزارع على اقتلاعها من جذورها. وهكذا المثقف الحقيقي في كل أمة وأية ثقافة، يقتلع جذور الأفكار الخبيثة ويدركها ويعرفها بعينه الفاحصة وعقله المتقد الذي يرى جذور الشجرة العملاقة، ولا تخلبه أغصانها الكثيفة أو جذعها الضخم الفارع، بل يرى ما تحت التراب ومبدأ البذرة الأولى في مهدها الأول.

كيف نقرأ التاريخ إذن؟ وما السياقات التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه اليوم؟ وهل للأحداث التي تحدث اليوم جذور تاريخية؟ أم أنها مُنبتَّةٌ عن تلك الجذور؟.

إن التاريخ في كل البلدان واحد لا يتغير مهما تغيرت الأزمان والأدوات، فالتاريخ هُوَ هُوَ مذ بدأت الخليقة؛ غالب ومغلوب، منتصر وخاسر، قاتل ومقتول، مُسْتَبِدٌّ ومظلوم، فما الجديد؟. لقد تغير كل شيء مع معرفة الإنسان، ولذلك تبوأت المعرفة والعلم مكانة في كل الحضارات والأديان، والعلم هنا ليس بمعناه الإنجليزي -Science- فحسب بل يتعدى ذلك إلى المعرفة بمفهومها الواسع ومشاربها المتعددة. فمذ بدأت المعرفة تتغلغل في الأرواح البشرية، لم تعد الحياة مقتصرة على المَعاش والمَأكل والمشرب، لقد ظهرت المعاني الجديدة والجليلة لحياة الإنسان، فأضحى يموت لا لأجل لقمة العيش فحسب؛ بل في سبيل مبادئه وأفكاره ومعتقداته، وأصبح يُقتل أو يُغتَال عليها!. لم تعد الحياة مقتصرة على اتّباع القوي إذن؛ لكن هل توقف الشر وأسدل جفونه وهو ينظر إلى تلك النهضة وذلك الاستيقاظ؟؛ بالطبع كلا!. لقد تطورت أساليب القمع في مقابلة التوق إلى التحرر من سجون الظلم والظلمات، وكلما وجد الناس منبعا يَرِدُونَهُ؛ سَارَعَ الشرُّ إلى تجفيف ذلك المنبع أو طمسه، فغدا منسيا لعقود طويلة، ثم ما يلبث أن تنتشله يَدٌ مؤمنة بالإنسان، لتعيده إلى مكانته السامقة، فيغدو ذلك النبع أكبر من الوقت الذي طُمِسَ فيه!. و اعجبْ لنبع كَبُرَ بعدما ظنناه ميتا، هكذا هي آثار المفكرين الأحرار والمثقفين الساعين إلى صلاح البلاد والعباد لا إلى مصلحة شخصية أو منفعة ذاتية.

إننا ننسى أنفسنا في اليوميِّ العادِيِّ أكثر من اللازم، فلا ننظر إليه بعين جديدة فاحصة تراقب تمثلاته وسياقاته وبذرته الأولى؛ بل نتعامل معه باعتباره شيئا جديدا منفصلا عما سبقه من تاريخ وثقافة ووعي كامل وشامل إزاء الإنسان والحياة. فندرس ما فعله الإغريق في السياسة، ونتعلم عن دور المرويَّات الشعرية عند العرب في صنع التاريخ وتزويره وطَمسِ المُعادين لصاحب السلطة والنفوذ، ونتحدث بشغف عن الثورات والثورات المضادة، كما نتحمَّس وتَفورُ دماؤنا حين نتدارس ما فعله الإنسان بأخيه الإنسان في الحربين العالميتين الأولى والثانية.

لكن، لماذا نظن أن هذا كله في الماضي فحسب؟ أليست أيامنا الحالية ماضيا بالنسبة إلينا بعد حين؟ فما الذي ينبغي علينا فعله إذن؟. مر عليَّ مقطع من خطاب مصور لمدرب كرة القدم، الإسباني القدير بيب غوارديولا، يقول فيه فيما معناه وفي سياق حديثه عن غزة "في عالم يقولون لنا فيه أن تأُثيرنا صغير جدا، لكن الحقيقة أن القوة في هذا العالم ليست في السلطة؛ بل في الاختيار، وعن امتلاك المبادئ، وعن رفض الصمت عندما يكون ذلك ضروريا". هذا ما ينبغي علينا فعله في حياتنا كلها، أن نختار. نختار مبادئنا وطريقة تفكيرنا وحياتنا كلها.

لقد اقترن الظلام بالخوف في وعينا منذ الأزل، واقترنت الشعلة بالأمل بعد تلك الظلمة. فبعدما كنا نخشى أن تتخطّفنا يد الأقدار عبر الحيوانات المفترسة أوالمخاطر الطبيعية التي لم نكن نراها؛ أعطتنا الشعلة الأولى الخيط الأول والأمل الأول في الدفاع عن أنفسنا ومعرفة الأخطار على السواء. فبتنا نُشَبِّهُ الجهلَ الذي سيقتلنا لا محالة، بالظلام الذي عشناه في الكهوف والغابات والأودية والجبال. وباتت المعرفة الشعلة التي منحتنا الطمأنينة -وإن لم نهزم بها أعداءنا دوما- والإيمان بمقدرتنا على الصمود ومعرفة مكامن الخطر.

إننا نتجاهل الأدب في تعاملاتنا مع التاريخ وعلم النفس وفهم المجتمعات البشرية وحكمتها، ونقرن الشعر خصوصا بالكلام المنمق المعسول الذي لا فائدة فيه سوى التربيت على أرواح المتعبين المنكسرين، ولا عائدة منه سوى دراهم يتلقاها الشعراء في المحافل وأمام الملوك. لكن، أليس الشعر تاريخا آخر؟ أوليست القصائد ثمرة المجتمعات ومعتقداتها وطريقة عيشها؟. هو كل ذلك وأكثر، ففي تلك الأبيات المنثورة هنا وهناك، تجد الحكمة المخبوزة برفق وتأنٍّ، الحكمة التي لو أخذناها بحق لرأينا تمثلاتها الجيدة في حياتنا، ولجعلناها مكشافا ننظر به في الحقائق، أو ما تبدو على أنها كذلك. وما من امرئ يقرأ الشعر القديم اليوم بعد قراءته لعلوم العصر -الإنسانيات خصوصا- إلا وسيبلغ ذهوله ودهشته مداهما، ففيه من النظريات والمُخرجات والنتائج التي لم تُسَمَّ في حينها، مما يجعل المرء يُكبِرُ أولئك العظماء وكيف توصلوا إلى تلك النتائج مع قلة الوسائل والأدوات في حينه.

أما عن قراءة التاريخ، فإنني أميل أكثر إلى قراءة الإنسان نفسه لا آثاره. يبدو أن في وعينا شيئا يجعلنا ننسى أن الإنسانَ إنسانٌ، فنضفي عليه صفات الألوهية والقدرة المطلقة والنور الكُلِّي حين نحبه ونزنه بميزان المَآثر والمنجزات. ونلقي عليه اللعنات وأبشع العبارات حين لا نحبه أو نصنفه في القسم المضاد للنور -الذي نعتقد بأنه نور وفقا لتصوراتنا وما ترسّخ في وعينا الذي نقارب به الأشياء ونزن به الأمور- ونُلصقه ونُلصِقَ به أشنعَ الصفات و"نؤبلسه" ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. لكنَّ السيءَ في مكان، خيّر في مكان آخر، وما ينبغي أن نتنبه إليه حقا، هو مكمن السوء ومنبعه. إن الحديث عن الإنسان وداسته كما تُدرس المادة الخالية من الروح، أو كما تُدرس الكائنات الحية حتى؛ مبدأٌ خاطئ حتى النخاع. فالغضب والثأر والانتقام واليأس والاكتئاب والحقد والحسد وغيرها من الطبائع التي لا يمكن إغفالها، تصنع المعجزات. وليست المعجزات هنا تلك الخوارق الحسنة، بل قد تكون من الخوارق المخيفة والفظيعة في آن. وما يبدو أنه مستحيل وبعيد المنال، قد يغدو أقرب مما تخيلناه يوما.

قراءة التاريخ تبدأ بقراءة الإنسان، صلاحه وفساده. ومتى ما ملك الإنسان القدرة المطلقة، وغابت المساءلة عنه؛ ظهرت حقيقته وبانت مقاصده وارتفع قناعه وانكشف وجهه. فإما أن تنتصر روحه الخيّرة، أو يظهر لنا مسخ لم نتفطن لوجوده تحت تلك الطبقة الرقيقة من الجلد النظيف. كيف نقرأ كل شيء إذن؟ بعين بصيرة ومساءلة دائمة وبحث لا ينقطع، فزمن اليقينيات والنبوات ولّى منذ مدة طويلة؛ ولم يعد بأيدينا سوى مساءلة كل شيء لنصل إلى جزء من الحقيقة الواسعة. وإذا كان بمقدور السلطات تحويل الرمل إلى ذهب، والقاتل إلى ضحية ولم تكن تملك ما تملكه اليوم؛ فكيف سنصل إلى الحقيقة غدًا وقد أصبح للذكاء الاصطناعي أياد تفوق الأخطبوط، ومحيط لا نهائيٍّ من الأفكار والوسائل والطرق؟. كل هذا يدعونا إلى التوقف هنيهةً، وتقرير ما نريده في حياتنا لأجلنا أولا، ولأجل من حولنا.

 الإنسان هو الجذر الأول والبذرة الأولى للتاريخ، وإذا أردنا أن نغيّر واقع الحال؛ فلا بُدَّ من دراسة البذور النافعة المفيدة التي أنتجت لنا أطيب الثمار التي نتنعم بها حتى اليوم. كما لا ينبغي لنا ألبتة أن ننسى تلك الحشائش والأحراش التي تخنق الأرض وتقتل خصوبتها وخيراتها، والتي اكتوينا بها ونكتوي حتى اللحظة.

قراءة التاريخ، والتأمل والتفكر فيه، لا يمنح الإنسان رفاهية المعرفة أو امتيازها؛ بل هو ضرورة يدركها جيدا من يدرك هدفه في هذه الحياة. هنالك الكثير مما نتفاوت فيه كبشر، فبعضنا يولد غنيا والبعض فقيرا، سيِّدًا ومَسودا، قويا وضعيفا، ذكيا وأقل ذكاء؛ لكننا نملك الوقت نفسه أكنا ملوكا أم أناسا في أقصى البلاد لا يعرفنا ولا يسمع لنا أحد حسا أو نَفَسًا. لهذا تغدو قراءة التاريخ ضرورة لا غنى عنها، وإن العاقل من يعرف نفسه حق المعرفة ليختار طريقه التي يسلك، ودربه الذي يشقُّ، وهل هنالك ما هو أجدى وأنفع من قراءة التاريخ كي لا نكرر الأخطاء والحماقات التي قد تودي بنا إلى ما لا نُحِبُّ؟.

 


تعليقات

المشاركات الشائعة