التاريخ (أرشيفٌ للموتى.. أم عينٌ للأحياء؟) | 29 يونيو 2025

 

التاريخ

أرشيفٌ للموتى.. أم عينٌ للأحياء؟

تتسبب الأمواج العاتية لبحر المعلومات الرهيب والمتجدد في حالة من النشوة العالية لدى بدء الموجة لمعرفتنا برؤوس الأشياء، إلى أن نرتطم بأرض صُلبةٍ من الصدمات المتتابعة التي تستدعي غربلة ما أخذناه كحقائق مسلّمة لا ينبغي التشكيك فيها. ورويدا رويدا يفقد المرء القدرة على معرفة الحقيقة من الخيال، الواقع من الوهم جرَّاءَ هذا التسارع المجنون، فيشعر بفقدان الشغف والشهية للقراءة والمعرفة لا لنقص المصادر؛ بل للتخمة الحاصلة لديه جرَّاءَ هذا كله. كانَ زمنٌ ما، معروفا بأنه "زمنُ الشعر"، وكانت الأشعار تروي حال الناس في كل شيء؛ كل شيء حقا!. فمن طُرُق الحياة المُعاشة، إلى السياسة والحُكم، إلى الأخبار والوقائع، إلى الجد والهزل، والكَدِّ واللعب، والسلم والحرب؛ ألا يذكركم هذا بشيء؟ إنه زمن الشعر القديم والمعلقات الأسطورية التي طافت الآفاق وحازت اهتمام الناس وعنايتهم، فدرسوها وحللوها، وحفظوها وتناقلوها، وحتى يومنا هذا أعلوا من شأنها فرفعوها. لكن هل للمعلقات أهمية غير كونها قديمة؟ أم أن أهميتها في كونها تحفظ اللغة العربية الفصيحة في أوجها وشبابها قبل أن يصيبها الوهن والضعف؟. لم تكن المعلقات ولا القصائد التي قاربتها جودةً تشترك في شيء كاشتراكها في أنها تحوي من التاريخ ما لا تحويه الكتب، وإن كان للفرس كليلة ودمنة -وإن كان مترجما عن السنسكريتية- وللهنود الفيدا والمهابهارتا فضلا عن البنچاتنترا المعروفة لدينا باسم كليلة ودمنة؛ فقد كانت أشعار العرب المخزون الوافر لأيامهم المشهورة، ووقائعهم المذكورة، ومآثرهم المسطورة، فسَمَّوْهُ ديوانهم. فلم يكد شاعر يُفاخِرُ شاعرا إلا بشيء من نسبه وتاريخه وتاريخ قبيلته وخاصّته، ولم يَذُمَّ شاعرٌ شاعرًا إلا وتعدى ذلك شخص الشاعر إلى قبيلته وأصله وفصله، والهاجي والمَهجُوُّ كلاهما يتفقان في معرفة التاريخ معرفة دقيقة حية. لكن هل نحن بحاجة لمعرفة التاريخ حقا؟.

إني أرى أن التاريخ كُلَّهُ واحدٌ؛ فإن اختلفت الوسائل والسُّبُل، لم تختلف النتائج والآثار. فالتاريخ من صُنع الإنسان وكسْبِ يده، وليسَ شيءٌ أثبت حالا ويُنبيك أوَّلُهُ عن آخِرِهِ كفِعلِ الإنسانِ ذاتِهِ. فإذا ما تأمَّلنا -هل يصح التأمُّلُ في الماضي والحاضر والمقارنة بينهما، دونَ معرفةٍ بالتاريخ؟- الأوائلَ وأفعالَهم، ونتائج تلك الأفعال، لما وجدناها تختلف عن إنسانِ اليومِ في جوهرها وحقيقتها. وقد أدركَ الفاعلونَ في تاريخ البشرية أهميةَ دراسةِ أفعالِ الإنسانِ وأقوالهِ وآثارهِ، وهيَ أصلُ التاريخِ ولُبِّهِ. فهذا خَبَرٌ عن أحد ملوك الفُرس ينقله الجهشياري في دُرَّةِ كُتُبه "الوُزَرَاءُ والكُتَّابُ" يقول فيه "وكانتِ المُلوكُ تُقَدِّمُ الكُتّابَ، وتَعْرفُ فضلَ صناعةِ الكتابةِ، وتُحْظي أَهلَها، لِما يَجْمعونه من فَضْلِ الرَّأْي إِلى الصِّناعةِ؛ وتقولُ: هم نِظامُ الأُمورِ، وكَمالُ المُلْكِ، وبَهَاءُ السُّلطانِ، وهم الأَلْسنةُ النّاطقةُ عن الملوكِ، وخُزَّانُ أَموالِهم، وأُمناؤُهم على رَعِيَّتهم وبِلادِهم . وكانَ مُلوكُ فارسَ إِذا أَنْفذوا جَيْشاً ، أَنفذوا معه وَجْهاً من وجُوهِ كُتّابِهِم، وأمروا صاحبَ الجيشِ أَلاّ يَحُلَّ ولا يَرْتحلَ إِلاّ بِرَأْيهِ؛ يَبْتغونَ بذلكَ فضلَ رأيِ الكاتبِ وحَزْمَه". والكاتب هنا، هو لسان الملك والناطق باسمه، والآمر بأمره؛ وهو كاتب رسائله وقراراته ومراسيمه وإخطاراته. وإذا ما علمنا بأن من أسس تشكيل الكاتب أن يكون عالما بالتاريخ، عارفا لوقائعه وأيامه، مستحضرا لما حَدَثَ، وكَيفَ حَدَثَ، ولأيِّ شيءٍ حَدَث؛ انجلت مؤونة التذكير بأهمية التاريخ ومكانته عند السابقين واللاحقين. فلم يكن مَلِكٌ، أو قائد، أو فيلسوف، أو مبتكر؛ إلا وكان للتاريخ يد في صُنعه وصقله وتعليمه ونبوغه ثم بزوغه بعد ذلك. ثم أيُّ فضلٍ للكاتب إن لم يكُن قد حاز من المعرفة بالناس ما يُمكِّنه من سياسة أمرهم، في الحَرِّ والقَرِّ، والمَنشَطِ والمَكْرَه، وهو الشيء المباشر والنتيجة الحتمية لمعرفة التاريخ، ولذلك ذكرها هذا الملك باعتبارها فضلا ومُزيَة.

وهكذا الجهشياريُّ يصرُّ على تأكيد ذلك بخبر آخر عن فيلسوف عظيم، وقائد كبير؛ وهما أرسطو وتلميذه الإسكندر المقدوني "وكان أَرِسْطاطاليس أَدَّبَ الإِسكندرَ، فلمّا نَشأ الإِسكندرُ وعلا، وعَرَفَ مِنْ أَرِسطاطاليس ما عَرَفَه من الحِكمةِ، كان شِبْهَ الوزيرِ لهُ، وكان يعتمدُ عليه في الرَّأْيِ والمَشورَةِ. فكتبَ إِليه يُخبرُهُ أَنَّه قد كَثُرَ فِي خَواصَّهِ وعَسْكرِهِ قومٌ ليس يَأْمَنُهم على نَفْسه، لِمَا يَرى من بُعْد هِمَمهم وشَجاعَتهم، وشُذوذِ آلتهمْ -الآلة هنا بمعنى شِدَّتهم-، وليس يرَى لهم عُقولاَ تَفي بهذهِ الفَضائلِ التي فيهم بقَدْرِ هِمَمهم. فكتبَ إِليه أَرسطاطاليس: فَهِمْتُ ما ذكرتَ عن القومِ الذينَ ذكرتَ؛ فأَمّا هِمَمُهم، فمِنَ الوفاءِ بُعْدُ الهِمَّةِ؛ وأَمّا ما ذكرتَ من شَجاعتِهم مع نقْصِ عُقولِهم، فَمَن كانت هذه حالُه فَرَفِّهْهُ في المعيشَةِ، واخْصُصْهُ بحِسانِ النِّساءِ؛ فإِنَّ رَفاهَةَ العيشِ تُوهي العَزْمَ، وإِنَّ حُبَّ النِّساءِ يُحَبِّبُ السَّلامةَ، ويُباعدُ من رُكوبِ المُخاطرةِ. وليكُن خُلُقُكَ حَسَناً، تَسْتَدْعِ بهِ صَفْوَ النَّيّاتِ، وإِخلاصَ المَقالاتِ. ولا تَتناولْ مِن لَذيذِ العيشِ ما لا يُمكنُ أَوساطَ أَصْحابِكَ مثلُه، فليسَ مع الاسْتِثْثارِ مَحَبَّةٌ، ولا مع المواساةِ بِغْضةً". فكيف عرف أرسطو ما عرف من طبائع الرجال إلا بتكرار هذه الطبائع في نفوس مختلفة، من أزمان منصرفة، وأحوالٍ بائدةٍ، دَرَسَهَا وأنعَمَ النظر فيها ومَحّصها. ثم ما الحكمةُ إلا اتِّباعُ الشيءِ الأحسن بعد الحسن، واختيار أهون الشَّرَّينِ إن لم يمكن اجتنابهما معا؟ وكيف يتأتّى للمرء أن يفعل ذلك كله دون درايةٍ سابقة، وخبرةٍ متراكمة انتقلت من الأولِ إلى الآخِرِ. نعم يمكن أن يتجاهل المرءُ التاريخَ لينحت في صخرٍ صَلد بدل أن يمتَحَ من معينٍ عذب، لكن أليست هذه عين الحماقة وأُسُّهَا؟.

إن في دراسة التاريخ عِبَرًا لا عِبرَةً واحدة، وفرائد وفوائد يجنيها المرءُ كما يجني العسلَ من ثنايا اللسع وأزيز النحل. إننا ننسى أن أعظم ما حققه الإنسان ليس إلا استكمالا لما بدأه أخوه الإنسان. فلم يكن آينشتاين نشازا عن السياق الذي سبقه وانتظم فيه؛ بل هو المحظوظ الذي أمسك العصا السحرية التي ناولها إياه من سبقوه من ماكس بلانك ونيلز بور وغيرهم، فبنى على ما أسهموا فيه وأثرَوْه، فكان واسطة القلادة والعِقد. ولم يكن نابوليون وبسمارك لينالا هذه الحظوة والمكانة لدى الأوروبيين عامَّةً، ولدى قومهما خاصَّةً -بغضِّ النظرِ عن أفعالهما تجاه مَن هم مِنْ غَيْرِ بني جلدتهما- لولا اطلاعهما الشره وولعهما بالتاريخ وحوادثه بما فيه من خير وشر. وهل يمكن أن نذكر التاريخ الحديث دون أن نذكر مكيافيللي؟، هذا من المحال بالطبع. فمن يقرأ الأمير لمكيافيللي، يجده طافحا بمقارنة اليوم بالأمس، والرجال بالرجال؛ فالجوهر واحدٌ حتى وإن اختلفت الثياب وتبدلت الألوان والأزمان، والطبيعة البشرية محفورة في كل واحد منا كما لو أنها وشمٌ لا يزول ولا يفنى حتى بفنائنا.

ثم هل يمكن أن نفهم الحاضر دون أن نذكر تاريخ منطقتنا وندرسه؟. فللتاريخ أهمية في تشكيل الأيديولوجيا والعقيدة الجمعية لدى الناس؛ وهي العقيدة التي أدت إلى استمرار شرعية الاحتلال لدى كثير من الغربيين -قبل السابع من أكتوبر- وكيف تغير الأمر بعد أن انكشف للعالم الحر زيف الرواية التي بُنِيَت عليها أسوار الأوهام وشُيِّدَت على أنقاض دماء المظلومين والمكلومين منها، مسوخٌ أشبه شيءٍ بالبشر، وليسوا بشرًا، وكيان أشبه بحانة العصابات لا بالدولة أو القانون. إنَّ وجودنا كُلَّه سَرْدِيَّةٌ عميقة تتغلغل في اللاوعي الذي يشكِّلُ واقعنا الذي نَتَصَرَّفُ وفقًا لهُ، فأحفادُ الأبطال سيكونون أبطالا في الغالب الأعم؛ لأن المرءَ يحبُّ أن يحذوَ حَذْوَ النوابغ والفَلَتَات خصوصا إن كانوا من أهلِهِ وخاصَّتِه. وإن كانت الأخبار عنهم سيئةً جالبةً للعار، فإنَّ المرءَ يظلُّ مطأطأَ الرأسِ ينتظر مُخَلِّصَهُ ومَهْدِيَّهُ الذي يُزيح عنه آلامَهُ وأحزانَهُ، وواقعَهُ المَرير. فهل سيعود المرءُ إلى قراءة التاريخ ليتبصَّرَ ويتدبَّرَ ويفعَلَ الخيرَ ويجتنبَ الشرَّ؟ أم أنه سيُلقي كُلَّ ذلك وراءَه ظِهْرِيًّا كأنما نَسِيَ أنَّ بَينَهُ وبينَ المُتَوكِّلِ الليثي نسبًا ولسانًا ومبدأً يفنى ويحيا المرء في سبيلهِ، في الضرَّاءِ قبلَ السّرَّاء وهو القائلُ حَسَنٌ قَولُهُ ومَنْطُوقُهُ

لَسْنَا وَإِنْ أَحسَابُنَا كَرُمَتْ
     يَوْمًا عَلَى الأَحْسَابِ نَتَّكِلُ

نَبْنِي كَمَا كَانَتْ أَوَائِلُنَا
     تَبْنِي وَنَفْعَلُ مِثْلَمَا فَعَلُوا


تعليقات

المشاركات الشائعة