ماذا لو؟ | 19 يونيو 2025
"إن العدوانية تتخذ خصوصيتها تبعاً للكائن المُعتدى عليه إزاء الذات المعتدية. ويشتمل الوضع الأكثر تكراراً في استدعائه على تماثل معين بين المعتدي والمُعتَدَى عليه: نحن متنافسون بغية الحصول على الشيء نفسه، وعلى الحظوة نفسها. وإني لأعتدي على الآخر لكي أحتل الموقع الأول (الوحيد) المُشتهى. ولقد يعني هذا إذاً أن العدوانية هنا ليست سوى أداة موضوعة في خدمة البحث عن الاعتراف: إن هذا إقصاء للمنافسين". الحياة المشتركة، تزفيتان تودوروف.
لا أعتقد أن أحدا من الخليج العربي خصوصا، ومن الدول العربية جميعها والدول المحيطة بإيران؛ استطاع أن يتجاهل ما يحدث من حرب حقيقية بين كيان الاحتلال الذي اعتدى على إيران مرارا، وبين الجمهورية الإسلامية. هذه الحرب غير المتكافئة التي يتطاحن فيها نظام بأكمله -الاحتلال والعالم الغربي خلفها- وبين دولة محاصرة اقتصاديا وتتعرض قياداتها وعلماؤها وعقولها للاغتيال بين فينة وأخرى. هذه الحرب التي يتابعها الناس بمزيج مرعب ولا مبالاة في ذات الوقت؛ ففي حين أن قلوبنا تبلغ الحناجر خوفا من كارثة نووية سنصطلي بنيراها أولا، ولأن إيران هي الكاسرة الأخيرة لأمواج الشر الهائجة، فهي المقاوم الوحيد والمستعد للمجابهة. ولا يخفى على أحد ما لإيران من مكانة ضبابية عند كثير من الناس؛ فمن ناحية هي التي تدعم المقاومة وترد -مؤخرا- الضربات على الكيان بذات القوة وذات الحسابات الاستراتيجية للحروب، ولكنها إيران التي تنتشر أذرعها في أمكنة مختلفة من العالم العربي الكبير، فضلا عن الصراع المذهبي واعتبارها تمثل قطبا بذاته من أقطاب المذاهب الإسلامية.
بغض النظر عن المحاجات المنطقية واللامنطقية في مسألة في صف من يقف المرء؟ وهل هنالك من داع لأن يتخذ موقفا في الأساس؟. لكننا لا ننسى أن هذه الحرب هي ما يمكن أن يكون الفتيل المتلظي المتصل بالقنبلة التي ستفجر الحرب العالمية الثالثة. ما العمل والحالة هذه إذن؟، قد يعمد الناس في مقارباتهم وتطبيقهم لتلك المقاربات إلى أمرين متضادين تماما؛ فإما أن يُبرز ذلك أفضل ما فيهم وإما أن يجعلهم يركنوا إلى ما اعتادوا عليهم ويهملوا الحقيقة الماثلة أمامهم باحتمالية الفناء. ننسى أحيانا أن المرء سيرحل يوما ما بغض النظر عن كيف عاش حياته وما إن عاشها على النحو الذي يريد أو الذي ينبغي إذا نظرنا إلى الأمر من عين الخطأ والصواب. لكننا في الحرب نتعامل مع موت مختلف، موت غير الذي اعتدنا عليه، موت لا نعرفه ولا نألفه ولا نتوقعه، فقد يموت بعضنا وقد نموت جميعا، لكن المسألة في غياب التوقع وإمكانيته. ولا ينبغي أن يكون هذا داعيا لنا لأن نقف مكتوفين ونترقب خائفين، بل أن نعمل لحياتنا كأننا سنعيش أبدا، ونتعامل مع من حولنا كأننا راحلون الآن لا غدا. ولنسأل أنفسنا؛ ماذا لو كان هذا آخر يوم في حياتي؟ ماذا سأفعل وكيف سأقضيه؟. وعلى الرغم من بساطة السؤال، إلا أنه قد يقلبنا ويقلب حياتنا تماما، ومن الممكن أن يعيد تشكيلنا إلى الأبد، فالموت من المذكرات الوجودية بكينونتنا الإنسانية الذائبة في دائرة الاستهلاكية المفرغة للأفكار والمشاعر والسلع اللانهائية، حتى غدا الإنسان ذاته سلعة في هذا السوق الكبير الذي يسلب تركيزنا ووعينا بلحظتنا الآنية. وإذا لم يكن من الموت بد، فلا حياة بلا موقف أو مبدأ أقول بأنني عشت لأجله وأموت لأجله.
وكما بدأت بالمفكر الرائع تودوروف، أختم بقطعة من كتابه كذلك حيث يقول "إننا نخاف من الموت، وإذاً نخاف أيضاً من كل ما يجعلنا نفكر فيه. وإننا لنفضل أن نبعد عن مجال رؤيتنا هؤلاء الذين يذكروننا به كثيراً . ولكي يكون ذلك، فإننا نسجن الكهول في بيوت للتقاعد، حيث لا يرون إلا كهولاً آخرين: لقد تخلصنا من هذا المشهد غير الملائم، ولكن هؤلاء لن يحصلوا إلا على إحساس ضئيل بالوجود في هذه الأمكنة حيث يعاشرون ليس أولئك الذين كان يحسب لهم حساب في حياتهم، ولكنهم يعاشرون مجهولين، يشبهونهم بالإضافة إلى ذلك، وإذا لا فائدة فيهم. وهكذا، فإن تعددية الوحدانيات لا تخلق مجتمعاً. ثم إن الخطوة التالية هي المستشفى، حيث يموت، في أيامنا، معظم الأشخاص المسنين: إننا نعالج فيها أعضاءهم، وليس كائنهم ونسعى إلى تطويل حياتهم، وليس وجودهم . فالكهول يموتون وحدانيين: لقد غادرهم الوجود قبل أن تغادرهم الحياة".
تعليقات
إرسال تعليق