المنطوق واللامنطوق في البناء الاجتماعي | 5 يونيو 2025

 


"ماذا نستطيع أن نعمل، بينما نحن على قيد الحياة، من أجل العالم؟. يتمنى كثير من الناس أن يقدموا خدمة للبشرية ولكنهم يجدون أنهم في حيرة إذ تبدو قوتهم بلا أثر. يدركهم اليأس ويصيب العجزُ من تكونُ أمنيتهم أشدّ ويمكن لانعدام الأمل أن يحطمهم اليأس روحيا. ولطالما نفكر بالمستقبل المباشر فقط، فإن ما نستطيع القيام به يبدو قليلا جدا. من المحتمل أنه يستحيل علينا وضع نهاية للحرب. لا نستطيع هدم السلطان الزائد للدولة أو الملكية. لا نستطيع ، هنا والآن ، خلق حياة جيدة في التربية ، لا نقدر في كل هذه الأمور ، مع أن بإمكاننا أن نرى الشر، أن نجد علاجا سريعا له بأي من الطرق العادية في السياسية. يجب أن نعترف بأن العالم تسوسه روح غير صحيحة، وأن نحولا في الروح لَنْ يأتي بلمحة بصر. يجب أن لا تكون توقعاتنا من أجل القريب بل من أجل الزمن الذي يصبح فيه فكرُ القِلّة، فِكرَ الكثيرين العاديّ. إذا كان عندنا الشجاعة والصبر، كان بإمكاننا أن نفكر بهذه الأفكار ونعيش الآمال التي ستشع عاجلا أم آجلا بين الناس وسنحول التعب ووهن العزيمة إلى طاقة وحماسة. لهذا السبب ، يجب أولا أن يتضح في عقولنا نوع الحياة التي نعتقد بأنها صالحة ونوع التغيير الذي نرغبه في العالم". برتراند راسل، أسس لإعادة البناء الاجتماعي.

تبدو الحياة المتسارعة في شتى مجالاتها أنها تنطلق نحو الأتمتة الشاملة لكل شيء، وكلما تقدم بنا الزمن كلما ذاب الآليُّ في الإنسان. حتى يصل المرء إلى أن بعض قدراته التي كانت في الأمس القريب شيئا بديهيا لا يُساءَل ولا يفكر فيه أحد؛ شيئا بالغ الصعوبة ويحتاج إلى التدريب والمران لاستعادتها بشكلها الطبيعي فحسب، لا لتطويرها أو لابتغاء والسعي لمزيد منها. في عالم كهذا، لابد أن تتقافز في الذهن أسئلة من قبيل "ماذا بعد؟"، "ما فائدة العلم؟"، إلى أن نصل إلى مساءلة أنفسنا عن ماهيتنا وذواتنا. فالإنسان الخامل يفقد القدرة على معرفة نفسه، يفقد قيمته لذاته وحياته وما يرتبط بها. وهذا الخمول المذكور هنا، ليس الخمول الجسدي، بل خمول المعنى وغيابه من حياة الإنسان.

ماذا نستطيع أن نغير إذن؟. نشأ الإنسان في جماعة، وسيظل في جماعة إلى أن تنتهي الحياة بالنسبة إليه أو بالنسبة إلى البشرية جمعاء؛ وفي الحالين فإن الثابت هي طبيعته ولزوم حاجته إلى أخيه الإنسان. فكما يقول فيلسوف الشعراء وحكيمهم، أبو العلاء المعري

الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ    بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ

هذا يقودنا إلى الشيء الوحيد المتبقي أمامنا بثبات ورسوخ في ختام اليوم، وفي ختام الحياة؛ إنه البناء الاجتماعي. فنحن وإن لم نستطع تغيير نمط الحياة والتخلي المطلق عن التطورات الحادثة فيها، إلا أن بيدنا تغيير الإنسان بطريقين؛ تغييره فرديا، أو جمعيا. فالتغيير الفردي يتطلب وقتا لا نملكه والحال هذه من التسارع والتغيرات الهائلة في فترة قياسية لا يمكن اللحاق بها. لكن التغيير الجمعي ممكن ومتاح، وميزته أنه يمكن فيه أن يستعمل المرء ذات التطورات والأدوات التي تدمر الإنسان، في بناء الإنسان!، أو في ترميمه على الأقل. والعلم الذي يتيح لنا هذه التغييرات هو الإنسانيات. والعلوم الإنسانية حقل شائك متعدد المنطلقات والنتائج، ولكنه جذريّ الحلول والتطبيقات من لدن متخصصيه والبارعين فيه.

يتربع علم النفس على الكرسي الأوسع في حقل العلوم الإنسانية المعاصرة، ففهم الإنسان ومراقبة تطوراته والتغيير الذي يلحق بمدركاته وبالتالي مخرجات تلك المدركات؛ مما يندرج تحت رعايته ونطاق تأثيره. ولكن علم النفس يعالج شيئا مختلفا، يعالج شيئا باطنا وظاهرا في آن، فكيف العمل والحال هذه؟. إن تغيير المدخلات ومراقبة الكلمات والأفعال والخيالات ومراجعة ما يبدو ثابتا راسخا، هو أول خطوة في سبيل الإصلاح وكشف الشقوق في النفس البشرية. فالإنسان كالبناء تماما، يهترئ ويصيبه الذبول إن لم يقف مع نفسه مراجعا ومصححا لما يتبناه ويعتمل في دواخله من أفكار ومعتقدات لا يمكن إلا أن تخرج في شكل كلمات عاجلا أو آجلا. هنا تتحقق أهمية معرفة المنطوق واللامنطوق في أفعال الناس، فإن لم نستطع تغيير مجرى الرياح، فإننا نملك القدرة على تغيير مسارنا بعيدا عن تلك الرياح وزوابعها. ومعنى هذا، أن الإنسان الذي يتأثر بأخيه الإنسان لا محالة، يمكن له أن يستبدل محيطه إن لم يستطع تغيير ذلك المحيط ومعالجته. ويتردد في ذهني قول الشاعر

كادَت عيونهُمُ بالبُغضِ تنطق لي    حَتّى كأنَّ عُيونَ القَوم أفواهُ

وهو ما سنتعامل معه في المناسبة الآتية، العيد. لكن المسألة هنا ليست مسألة البغض أو الكراهية، بل هي مسألة المنطوق واللامنطوق. فالمنطوق من الكلمات والأفعال يتبدى بسرعة ويمكن رصده ومعالجته في حينه، لكن اللامنطوق مما يعتمل في النفس البشرية من مشاعر غير مرئية قد تتبدى وتُترجَم إلى حركات جسدية لاإرادية، وقد تظل خفية غير مرئية؛ تلك هي أس المشكلة ومربط الفرس كما يقال. إننا بحاجة إلى علم النفس اليوم أكثر من أي وقت مضى، فالإنسان الذي بنى حضارته ببنائه لمجتمعات تلك الحضارة أولا، يخاطر اليوم بتمزيق ذلك المجتمع بترك الأمور على عواهنها وعدم معالجتها. ولا أستطيع انتظار اليوم الذي يتحد فيه علماء الاجتماع والنفس ليعالجوا التسربات والتشققات في البناء الاجتماعي، ويسائلوا المُسَلَّمَات كي يغدو المجتمع قويا متحركا ومنتجا؛ وكما قلت من قبل، إن لم نستطع تغيير الأفراد فردا فردا، فإن تغيير العقل الجمعي وجعل المسألة مشاعة للنقاش والحوار والمساءلة، هي أول الخطوات لمجتمع قوي صلب يستعمل التطورات الحديثة في صالحه، لا أن يكونَ رهنا لتلك الرياح تأخذه حيث تشاء وتلقي به في مهاوي الردى لا محالة.

إننا إزاء مناسبة اجتماعية فريدة، وليس هناك ما هو أفضل من المناسبات لمتابعة ومراقبة المجتمع في تمثلاته النفسية والاجتماعيبة الكامنة والراسخة في الوعي واللاوعي على السواء. ولنتأمل الكلمات التي وإن بدت مباشرة ولا تختبئ خلف أي مجاز؛ لنتأمل الدوافع التي تدفع الناس لقولها والبوح بها بلا خوف أو تفكير. تلك الكلمات بالذات تخبرنا عن ما تكنه الصدور من حُسنٍ ونقاء، أو سُمِّيَّةٍ ترتدي ثوب الصدق والمجاملة والإخاء.


تعليقات

  1. "الناسُ للناسِ مِن بدوٍ وحاضِرَةٍ بَعضٌ لبعضٍ وإنْ لَم يشعروا خَدَمُ" 💔

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة