الشرارة الإلهية | 02 أغسطس 2023
وقعت قبل فترة على كتاب نصحني بقراءته أحد الأصدقاء الأعزاء، وكنت قد بدأت أتابع مؤلف الكتاب الكندي وأتعرف على منهجه ومساره الفكري، وبعد بحث يسير تيقنت أن هذا الكتاب هو ما أبحث عنه حقا. يتحدث الكتاب عن قواعد للحياة يرى المؤلف بأنها القواعد التي تمنح المرء استقرارا في حياته، وتعطيه خارطة الطريق لمواجهة الظلام والفوضى، وكعنوانه الفرعي «ترياق للفوضى» فهو ترياق ناجع، كان العنوان الرئيس «12 قاعدة للحياة» لخص فيها المؤلف وعالم النفس الكندي «جوردان بِ.بيترسون» تجربته ورؤيته.
الممتع في الكتاب والذي جذبني إليه، أن المؤلف لا يعامل القارئ كتلميذ على كرسي الدراسة ويتقمص هو دور المعلم أو المربي الروحي؛ إنما يجسد في كتابه المثل المتداول «لا تعطني سمكة، بل علمني كيف أصطادها». فهو في كتابه يُشَرِّح الدوافع النفسية التي تجعل المرء يفعل الشيء الفلاني، ولأن النفس الإنسانية واحدة؛ فهذه الدوافع عند جميع البشر بدياناتهم المختلفة وعقائدهم الكثيرة. يتبع بيترسون في كتابه منهجا تفكيكيا سرديا رائعا، فهو يخصص لكل قاعدة من هذه القواعد فصلا، وفي كل فصل تجد القطع المبعثرة من الأحجية، التي تكتمل بانتهائك من قراءة الفصل وموضوعاته التصاعدية كاملة.
شدني إلى الكتاب التوجه المحافظ والمتدين للمؤلف ومنهجه النقدي، ففضلا عن تفكيكه للإلحاد والدوافع النفسية والفكرية المؤدية إليه، فهو يربط بين الطمأنينة النفسية والقرب من الإله العظيم الذي تشترك الديانات كلها في عبادته وإن اختلفت السبل وتعددت الطرائق، الله. يتحدث بيترسون في واحد من أمتع فصول الكتاب وهو الفصل الذي وضعته عنوانا للمقال، عن قصة الخلق والمغزى الأخلاقي للإصحاح الأول من سفر التكوين. «في الإصحاح الأول من سفر التكوين، خلق الله العالم بالكلمة الإلهية الصادقة، موجدا بذلك نظاما فردوسيا قابلا للسُّكنى من الفوضى العدمية السابقة لخلق الكون». ثم يستطرد في ذكر الأسباب المؤدية إلى «اضطراب الخير» الكامن فينا، وتجدر الإشارة هنا إلى أن بيترسون كاتب ساخر فطن، فبعض العبارات التي يستعلمها وتتبدى للقارئ وكأنها إيجاب وموافقة، إنما هي في حقيقتها عبارات نقد ومعارضة. كما أنه -كما نيتشه تماما- يستعمل الكثير من الإحالات اللغوية والبلاغية والإشارات الضمنية إلى نصوص مقدسة، فعبارة مثل «إننا نظل نتوق إلى الأبد لبراءة الطفولة، وللكينونة الحيوانية اللاواعية، وللغابة القديمة البكر المقدسة..» طافحة بالإشارات الضمنية والتي كان من المفترض أن يشير إليها المترجم في هوامش الكتاب، ولكنه أغفلها تماما. عود على بدء، يستطرد بيترسون في الحديث عن السبب الذي جعلنا منفصلين عن الله والخير، «ربما لم يكن انبثاق الوعي الذاتي، وبزوغ معرفتنا الأخلاقية بالموت، وهبوط أبوينا من الجنة، هو ما يُقلقنا ويجعلنا نشك في قيمتنا؛ بل ربما كان عدم استعدادنا للسير مع الله -المنعكس في اختباء آدم خجلا- رغم هشاشتنا وميلنا للشر، هو مصدر القلق والشك». مرة أخرى يستعمل بيترسون الإشارات الضمنية، فعبارة مثل «اختباء آدم خجلا» إنما هي إشارة إلى فصل سابق، أما عبارة «السير مع الله» فيشير بها إلى العيش وفق المنهج الذي وضعه الله لخلقه.
يكمل بيترسون حديثه التحليلي -بعد أن فكك سبب الخواء الروحي- والنقدي في آن؛ فهو يحلل الظاهرة وينقد منشأها، ففكرة مثل الخطيئة الأولى والنظر إلى أنفسنا «كمخلوقات آثمة» هي ما يجعلنا نعيش هذا القلق الوجودي والبعد تدريجيا عن الإله الرحيم. وأقتبس هنا واحدة من أجمل فقرات الكتاب على الإطلاق -رغم أن الكتاب مما يستحق أن يُقتبس كله!- يقول بيترسون: «إذا كنا نريد العناية بأنفسنا على نحو ملائم، فسيكون علينا أن نحترم أنفسنا؛ لكننا لا نفعل ذلك لأننا -في نظر أنفسنا- مخلوقات آثمة. ولو أننا عشنا بـ«الحق» ؛ وتحدثنا بـ«الحق»؛ فيمكننا حينها السير مع الله مرة أخرى، واحترام أنفسنا، والآخرين، والعالم. حينها يمكننا معاملة أنفسنا كأناس نهتم لأمرهم. يمكننا أن نناضل لإصلاح العالم. يمكننا أن نوجِّهه نحو «الجنة» التي نحب أن يسكنها الأشخاص الذين نهتم لأمرهم، بدلا من توجيهه نحو «الجحيم» الذي سيُلقي بنا جميعا فيهِ إلى الأبد غضبُنا وكراهيتنا».
يمثل كتاب بيترسون -بالنسبة إلي- نسخة مُطَوَّرة عصرية من كتاب مسكويه الذي تحدثت عنه مرارا «تهذيب الأخلاق»، وأعتقد أن براعة بيترسون تكمن في كونه ألَّف الكتاب ليكون للبشر كافة وليس لفئة دينية معينة، كالعقيدة التي يعتنقها أو العرق الذي ينتمي إليه، وهو ما يجعله مقروءًا في العالم أجمع، كما أن المعضلات الوجودية التي تواجه الفرد اليوم، والهشاشة النفسية الناشئة من الحداثة والعولمة المتطرفة والاقتصاد العالمي المتحكم بمصائر البشر، فضلا عن الأخلاق والآلام الإنسانية المشتركة؛ تجعل الكتاب -أيُّ كتاب كهذا- صالحا للقراءة والتأمل والتطبيق في شرق الأرض وغربها. فوضى «الوفرة السامة» كما أطلقت عليها هذا الاسم في مقال سابق، تجعلنا أمام مسؤولية وجودية حازمة وجادة لتشذيب الأفكار والأحاسيس المتشكلة جراء هذا الفيضان الرهيب والهادر للعالم التقني المعلوماتي.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/الشرارة-الإلهية
تعليقات
إرسال تعليق