كيف أختار كتابي؟-2 | 05 أبريل 2023
تحدثت في الجزء الأول من هذا المقال عن أهمية اختيار المحقق الصحيح والممتاز لقراءة أي كتاب تراثي، وذكرت بأن محقق كتب التراث يعادل المترجم الجيد لأي كتاب، بل إنه يفوقه جرّاء الجهد والنَّصَب الذي يلاقيه في تحقيقه لكتب التراث.
ولم أكن أنوي أن أجعل هذا المقال من جزأين، ولكنني وأنا أشتغل على عملٍ كتابيٍّ آخر، ألزمت نفسي في ذلك العمل على مقارنة عمل محققين في الكتاب ذاته، وذلك لأعرف أي الطبعات أفضل وأي المحققين أفضل في إخراج الكتاب بصورته النهائية التي تكون أقرب شيء مما أراد له المؤلف الذي قضى قبل قرابة الألف عام.
ظللت أطالع كتاب «العمدة» لابن رشيق القيرواني وأتصفحه إما في مكتبة النادي الثقافي أو عبر النسخ الإلكترونية للكتاب في محرك البحث جوجل، ولم تطمئن نفسي لعدد من الطبعات، إما لرداءة الخط وهو ما يجعل قراءة تلك النسخة من الكتاب تشبه التعذيب الذاتي للقارئ، أو لخلوِّ الكتاب من ذكر المحقق وهو ما يعني في أحيان كثيرة أن ذلك الكتاب ليس سوى نسخة أخرى من عمل محقق آخر، أكان محققا جيد التحقيق أم رديئه، أو لوجود أخطاء لغوية وإملائية شنيعة وفادحة في النسخة المطبوعة من الكتاب وهو ما يعد جريمة صارخة في حق المؤلف الأول الذي لم يكن ليرتضي بأن يخرج عمله بتلك الصورة الرديئة وهو عالم من علماء العربية الأفذاذ.
وكان من دواعي كتابتي للجزء الأول من هذا المقال، تلك الكتب التي ابتعتها من أشهر دار متخصصة في طباعة وتحقيق كتب التراث التي اكتشفت بعدها أن تلك الكتب إما رديئة الطباعة أو سيئة التحقيق وذلك لأنها كتب مغلفة لا يسمح بتصفحها في الدار، عدا كتابا واحدا منها -والذي لم يكن من طباعة تلك الدار أساسا-، التي علمتني ألا أشتري كتابا تراثيا بعدها إلا وأنا أعرف أفضل نسخة محققة للكتاب.
أمسكت كتاب ابن رشيق القيرواني بدهشة المرة الأولى للاكتشاف، فابتعتها دون تريث. وحين انقضت أيام معرض مسقط الدولي للكتاب، شرعت بقراءة الكتاب، ففوجئت حين انقضت سكرة الدهشة ولذة الحصول على المطلوب، بأن الكتاب يخلو من ذكر المحقق. قلتُ لا بأس، فهذه دار معروفة وتعد كعبة لكتب التراث، فلا يعقل أن يكون الكتاب رديء التحقيق!. ولكن ما هي إلا صفحات، حتى أدركت أنني وقعت في شرك المصيدة «البراند». البراند أو العلامة، تجعل المرء يختار كل شيء في حياته تقريبا بناء عليها، معتبرا حصوله على الشيء ذي العلامة التجارية الشهيرة منبعا للاطمئنان والثقة، وينطبق الأمر ذاته على الكتب كما في الصناعات الأخرى جميعها.
من النعم التي بين أيدينا اليوم، الإنترنت. فبضغطة واحدة وبحث بسيط، يستطيع المرء البحث عن أي شيء، وكل شيء كذلك. بحثت عن أفضل طبعات كتاب العمدة لابن رشيق، فوجدت طبعة أخرى غير تلك التي ابتعتها من المعرض، ثم حاولت الوصول إليها فلم أستطع إلى ذلك سبيلا، إلى أن سألت عنها أحد عباقرة تحقيق كتب التراث، فأهداني مشكورا مأجورا نسخة من التحقيق الأفضل لذلك الكتاب، وهو تحقيق الدكتور النبوي عبدالواحد شعلان. حين قرأت مقدمة التحقيق التي تربو على الأربعين صفحة، تعلمت شيئا إضافيا جديدا. يكتسب المرء شهرته في أي مجال بأمرين، إما بجودة عمله، أو بمكانته وسطوته الإعلامية. ويظل العمل الجيد باقيا رغم تعاقب الدهور والأزمان، أما الثاني فما يلبث أن تتكشف عنه الأقنعة الموهمة للمتلقي بجودته، مهما يكن لصاحبه من المكانة والشهرة والدرجة العلمية.
رغم أن الدكتور النبوي شعلان سلخ محقق الكتاب ومن بعده شارح الكتاب سلخا علميا بالأدلة والبراهين وبمنهجية عالية، إلا أن المرء يصاب بالحزن لكل هذا، فمع انحسار القراءة انحسارا مخيفا وندرة القراء عن ذي قبل، يصطدم المرء بالكتب الرديئة، أكانت كتبا مؤلفة حديثا، أم كتبا أجرم الناشر في طباعتها لنيل الربح الوفير بغض النظر عن جودة ما فيها وكيفية صدورها. وذلك لأن الكتب الرديئة قد تكون سببا في ترك القراءة من القراء الجدد ورسم صورة سيئة عن الكتب، لا سيما تلك الكتب المطبوعة عبر دور النشر المشهورة. تظل مهمة البحث عن الكتاب الجيد أكان حديثا أم قديما، مهمة يتحملها القارئ الجاد في سبيل الوصول إلى مبتغاه من السعادة واللذة المعرفية، ومهما تكن العقبات والصعاب التي تحول دون الوصول إلى الكتاب الجيد، إلا أن الرحلة لا تقل متعة عن الوصول.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/كيف-أختار-كتابي-2
تعليقات
إرسال تعليق