لماذا كرهنا الشعر؟ | 07 يونيو 2023
تندلع الأفكار والخواطر كلما عدنا بالزمن إلى مراحل الطفولة المبكرة ومقاعد الدراسة، وبين لا منطقية العواطف وصرامة العقل؛ نحاول تحليل ما يمكن تحليله من الأسباب التي نشأت في تلك الفترة المبكرة والنتائج التي أوصلتنا إليها اليوم. ومن هذه الأفكار تلك المرتبطة بالدراسة وطريقة التدريس وكيف آلت بنا الحال إلى ما نحن عليه اليوم، أفرادا ومجتمعات.
أتذكر خطاب معلم اللغة العربية في إحدى سنوات الدراسة حين أراد تحفيز أقراني ممن هم على حافة الرسوب في مادته، كان ذلك المعلم يستفزنا بجرائمه التي يرتكبها في حق اللغة، فمن نصب للمجرور ورفع للمنصوب وغيرها من المصائب، فاجأنا يوما بخطابه التحفيزي الذي يشبه الكوميديا السوداء. قال لنا بملء فيه، لا تيأسوا يا شباب ولا تكفوا عن المحاولة، فأنا اليوم مدرس لمادة اللغة العربية بعدما كانت هذه المادة سببا في رسوبي وتأجيل دخولي للجامعة!. ما كان خطابا تحفيزيا من قبل المعلم، نزل علينا كالصاعقة وبيّن لنا سبب تلك الجرائم اللغوية طوال تلك السنة العجفاء.
في العُرف الشعبي، يقول الناس: «أعط الخبز للخباز»، وهي للدلالة على وجوب وضع الشخص المناسب في المكان المناسب. كنت أقرأ قصة وردت في إحدى كتب النماء المالي، ذكر المؤلف فيها قصة شاب أراد أن يشق طريقه نحو الثراء، وبعدما جمع ما يكفي من المال قرر أن يستثمر ما جمعه في شراء المجوهرات من بلاد بعيدة وبيعها في بلده بعد ذلك. لم يكن ذلك الشاب صاحب خبرة ولم يسافر من قبل، فانبرى له صانع قرميد كثير السفر، وأقنعه بأن يسلمه المال ليشتري الجواهر النفيسة من البلاد البعيدة ثم يعود بها إلى بلاده ويتقاسمان الأرباح. لكن صانع القرميد تعرض للخداع في رحلته، وبدلا من شراء الجواهر، خدعه المحتالون فباعوا له زجاجا بدلا من الجواهر!. وحين اشتكى الشاب للحكيم من فعلة صانع القرميد، وبخ الحكيم الشاب لتوكيله مهمة شراء الجواهر لصانع قرميد وليس لصائغ ماهر.
المغزى من القصتين، أن وضع الرجل المناسب في المكان المناسب يجعلنا في مأمن من التدهور، ويعزز فرص الرقي والازدهار في شتى المجالات. أما ما يخص الشعر، فربما لو شكلت لجنة من الشعراء الكلاسيكيين والحداثيين على السواء، لارتبطنا بالشعر خصوصا وباللغة عموما. فالشعر الحسن كالمعادن النفيسة، لا يعرفها إلا ذو الخبرة والتجربة، ولا يصلح في الشعر ما يصلح في غيره من «القص واللصق». ولأن كان الناقد والأكاديمي هو من يختار القصائد للمناهج، فهو يتعامل معها بمستوى وعيه ومعرفته المتقدمين؛ لكن الشاعر يختار الأقرب للروح والأدنى إلى الفهم وخلجات النفس الإنسانية، فهو طفل في روحه كبير في عقله ومراميه. ولنكن واقعيين بعض الشيء، فهل يفهم طفل اليوم -وأتحدث عن العموم لا عن الحالات الخاصة والأفذاذ من الطلاب- هل يفهم معلقة «قفا نبك» ومراميها؟ أو قصيدة من قصائد قطري بن الفجاءة؟ إنما يكون التعليم بالدُّربة والخطوة بعد الخطوة كصعود السلم، فاختيار الشعر المناسب للمرحلة العمرية ولمستوى الوعي الجمعي لدى الطلاب اليوم، يكون أولى بالشعراء المعاصرين أكثر منه بالنقاد والأكاديميين المتحققين. وكما أن من المستحيل أن يكون كل معلمي اللغة العربية كابن جني وسيبويه؛ فإن من الممكن جدا أن يكونوا على دراية بأيسر الطرق والوسائل لتحقيق غاية التعليم وتكوين جيل يتقن العربية الصحيحة، ولا بأس بأن يكون معلم العربية خصوصا كالحكواتي الذي يسرد المطارحات والمشاكسات بين الشعراء وعلماء اللغة قديما بأسلوب حسن يحبب الطالب في مادته والاستزادة منها. وكما ذكرت قصة معلمنا صاحب الخطاب التحفيزي، لا أنسى ذلك المعلم الذي حببنا في اللغة العربية وجعلنا نحِنُّ إلى حصصه الأسبوعية التي تشبه فيلما سينمائيا يلتقي فيه جرير بالفرزدق، والستالي بسليمان النبهاني ومجالس الإمتاع والمؤانسة.
فهل سنظل نوكل مهمة اختيار الجواهر لصانع القرميد؟ أم سنعرف الوجهة بمشورة الصائغ وتوجيهه؟
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/لماذا-كرهنا-الشعر
تعليقات
إرسال تعليق