مقاصد التاريخ! | 12 يونيو 2024
دأب المفكرون أكثر من غيرهم على الاستفادة من التاريخ والانكباب على دراسته والنظر فيه والغوص في مكنوناته وغاياته، فوجدوا فيه الحِكَم التي استنتجوا منها ما يصلح لليوم والغد، وغادروا التاريخ آخذين منه أحسن ما فيه ليسلموه للأجيال التالية، ونابذين مفاسده التي لم يتخلصوا منها بإخفائها، وإنما بدراستها والنظر فيها كي لا يقع المعاصرون ومن يأتي بعدهم فيما وقع فيه أسلافهم من مصائب وأخطاء وسقطات لا تغتفر. برز عند العرب مؤرخون كثر، ولحسن حظنا وكذلك للطريقة التي يتربى بها العرب المسلمون قديما، أي بدراسة علوم القرآن والحديث واللغة، فقد كان مؤرخو العرب أدباء بطبعهم، فلا يستشعر القارئ لمؤلفاتهم وآثارهم أنه يقرأ مادة جافة صلبة، وإنما يستمتع برحيق مفيد يأخذ منه ما يصلح لليوم والغد، ومن هؤلاء ابن خلدون وهو العلم الأشهر، وابن الأثير صاحب المطولات كالكامل في التاريخ، والطبري صاحب كتاب تاريخ الرسل والملوك، وغيرهم. لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن اليوم، ما أهمية التاريخ في واقعنا المعاصر؟ بعبارة أخرى، ما فائدة ونفع التاريخ أمام هذه المجازر والوحشية التي يرتكبها الإنسان بحق أخيه الإنسان؟
يبتدئ القارئ العربي اليوم وهو يتحسس طريق القراءة، بالقراءة عن فلسطين وتاريخ احتلالها وكيف تطور الاحتلال واستشرى وزادت رقعة الأرض التي يحتلها يوما بعد يوم. وبعد أن يتشرب تلك المعلومات ويدرك الأسباب والمآلات، يحاول توعية الآخر -البعيد عن فلسطين جغرافيا- أكان في الشرق أم الغرب، في سبيل تغيير شيء ولو يسير من الواقع. ومع التطور التكنولوجي والتقدم العلمي والإعلامي على السواء، انفلتت الرواية التي كانت وحيدة أو محصورة فيما تقدمه وسائل الإعلام -التلفاز، الإذاعة، الصحافة- فحسب، وصارت متاحة للجميع، ففي يد كل واحد من البشر اليوم أداته الإعلامية التي يحملها أنّى توجّه وقصد. وبينما كانت الانقلابات السياسية، أو في حالات الحروب والاحتلال تبدأ بوسائل الإعلام والسيطرة عليها، صارت القوى السياسية تستعمل الإعلام البديل والحر بمحاذاة الإعلام المعتاد، فصار للمشاهير باعتبارهم أكثر الناس تأثيرا، أو لنقل أكثر الناس قدرة على نشر الرسائل التي يريدها الممولون لذلك المشهور، أصبح ما ينشرونه أبلغ تأثيرًا وأسرع انتشارًا وذيوعًا من وكالات الإعلام ونشرات الأخبار.
وفي حاضر اليوم والعالم يشهد إبادة جماعية هي الأولى من حيث التوثيق والبشاعة الحية، يقف المرء أمام سؤال الجدوى من كل هذا؛ ولهذا بالذات ينبغي أن نعيد الاهتمام بالمؤرخين والمفكرين الأحرار. فلو لم يكن للناس أي تأثير، لماذا تقمع حكومات الغرب الطلاب بوحشية لا مثيل لها لدى مناصرتها للقضية الفلسطينية، بل لدى مطالبتها بالكف عن القتل! فكثير من المتظاهرين لا يهمه تاريخ القضية ولا يعرف عنها شيئا، لكنه ينتفض أمام مشاهد التقتيل والإبادة المبثوثة في الآفاق اليوم! لذلك حمل «منتدى الجزيرة الخامس عشر» أهمية كبرى لموضوعه، وللمتحدثين فيه؛ من أمثال إيلان بابيه ومصطفى البرغوثي الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، وديفيد هيرست مؤسس ومحرر موقع ميدل إيست أي (Middle East Eye)، ووائل الدحدوح مراسل ومدير مكتب الجزيرة في غزة، وغيرهم. ومنتدى الجزيرة هذا أو Al Jazeera Forum هو منتدى تقيمه قناة الجزيرة في الدوحة وقد حمل عنوان «تحولات الشرق الأوسط بعد طوفان الأقصى» لهذه الدورة.
إن أهمية التاريخ بشقيه، المعاصر والماضي؛ تكمن في أنه شكّل ويشكّل حياة الناس في الشرق والغرب، فمنهم منتفع منه مستفيد، ومنهم كوته ويلاته ويكتوي منها كل يوم. فالتاريخ يحدد ما حدث وما سيحدث، وأما ما فعلته الجزيرة في هذا المنتدى؛ فقد جمعت الدارس للتاريخ من فلسطين، والدارس له من خارج فلسطين، والسياسي الذي تعامل مع القضية وكان قريبا منها جغرافيا، والسياسي القيادي المنافح عن القضية، بل إنها جمعت بين وائل الدحدوح الذي عاش وذاق ويلات الإبادة الحالية، وبين إيلان بابيه «الإسرائيلي» المنافح عن فلسطين والفلسطينيين في وجه الصهيونية العالمية!. هذه الإبادة ومآلاتها تستدعي أن تجمع الحكومة مفكرين أحرارا يساهمون في تشكيل المناهج الدراسية لترسخ المعنى الحقيقي للوطن؛ فلماذا يختار الفلسطيني أن يبقى في أرضه رغم الإبادة؟ ولماذا يهرب المستوطن خارج الأراضي المحتلة وهو ينتفع بالتسهيلات والحياة الرغيدة عند أول اختبار حقيقي؟ فإن لم يتولَ أحد رعاية النشء بالتوجيه السليم المستقيم منذ البداية، فإن مواقع التواصل والإعلام الجديد يشكل عقولهم وتوجهاتهم التي قد تستعملها جهات معادية أو متربصون أشرار لا يرون في الإنسان سوى القيمة المادية له.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/مقاصد-التاريخ
تعليقات
إرسال تعليق