الكتابة بإصبع مكسور! | 03 مايو 2023



الأشياء تبدو عادية، حتى يثبت العكس. نقضي أوقاتنا اليومية بعادية مطلقة، حتى تعترض طريقنا عقبات تتفاوت في حجمها وتأثيرها علينا، وما كان في يوم ما اعتياديا، يصبح أكثر صعوبة عند حدوث عارض يغير تلك المعادلة، خصوصا تلك الأحداث والتغيرات التي تطرأ على الجسد.


اعتاد الناس إعطاء الوصفات الطبية لأي مرض أو حادث يصيب الإنسان. ومما يثير فضولي، تلك الأسماء الشعبية المتداولة لتسمية بعض الأعشاب الطبية التي ينصحون بها المريض أو المصاب عند زيارته، والتي لا نعرف اسمها العلمي إلا لو بحثنا عنه عن قصد وتحرٍّ، في المقابل نجد الكبير والصغير والمتعلم ونقيضه يعرف أسماءها الشعبية وفوائدها وما تستعمل له وفيه. ومن هذه النباتات، «تفر التيس» التي يعرفها العمانيون بتسميتها هذه، بينما لا يعرفون اسمها العلمي أو سبب تلك التسمية. أما الاسم العلمي لهذه النبتة حسب ما وجدته في شبكة المعلومات «الإنترنت» فهو Haplophyllum tuberculatum ولم أجد له تعريبا يوازي هذه التسمية.


و «التيس» يعرفه الجميع، أما «التفر» فهي عربية خالصة؛ ولنا في لسان العرب لابن منظور كفاية في معرفة هذه الكلمة ومعانيها.


نجد الكلمة في حرف التاء، فصل الفاء «التِّفْرَةُ: الدَّائِرَةُ تَحْتَ الأَنف فِي وَسَطِ الشَّفَةِ الْعُلْيَا» وهذا سبب بدئي في الأسباب المحتملة لتسمية هذه العشبة عند العمانيين، فأزهارها الصفراء مدورة؛ لكن لِمَ رُبِطت بالتيس خصوصا دون غيره من الحيوانات؟.


نجد ابن منظور يكمل في لسانه «والتَّفِيرَةُ: كُلُّ مَا اكْتَسَبَتْهُ الْمَاشِيَةُ مِنْ حَلَاوَاتِ الخُضَرِ وأَكثر مَا تَرْعاه الضأْن وَصِغَارُ الْمَاشِيَةِ» فلربما كان السبب الثاني في هذه التسمية تفضيل الماشية لهذه النبتة لضآلتها وقربها من الأرض، وهو ما يورده ابن منظور في لسانه كذلك، حيث يقول «التَّفِرُ: النَّبَاتُ الْقَصِيرُ الزَّمِرُ». والزَّمِرُ هو الحَسَنُ كما في اللسان. أما إذا عدنا إلى اسم الدواء «تفر التيس»، فربما حُرِّفت الكلمة عن رسمها الصحيح وأُبدِل حرفها الأول، أي التاء.


وهو ما أرجحه، أي أن أصل الكلمة هي دَفر أو ذَفر، يقول صاحب اللسان «والدَّفَرُ: النَّتْنُ خَاصَّةً وَلَا يَكُونُ الطِّيبَ البتةَ.

ابْنُ الأَعرابي: أَدْفَرَ الرجلُ إِذا فَاحَ رِيحُ صُنَانِهِ. غَيْرُهُ: الذَّفَرُ، بِالذَّالِ وَتَحْرِيكِ الْفَاءِ، شِدَّةُ ذَكَاءِ الرَّائِحَةِ، طَيِّبَةً كَانَتْ أَو خَبِيثَةً».

وهو ما تعضده التسمية الشعبية الأخرى للنبتة الطبية «صنان التيس»، ولهذه النبتة رائحة نفَّاذة كريهة حتى عند شربها، ولهذا السبب ذاته رجحت ما رجحته. ومما تقتضيه الأمانة المعرفية أن أنوه إلى أنني لم أتمكن من مقارنة نسخة اللسان الرقمية عبر الإنترنت التي اعتمدت عليها في مقالي، مع نسختها الورقية.


وهنا دعوة لقراءة قواميس اللغة ومعاجمها، ومن يقرأ تلك المعاجم وأمهات الكتب التراثية ككتب الجاحظ؛ يجدها مليئة بالكلمات العربية الفصيحة التي نستعملها في قطرنا العماني حتى وقت قريب، والتي انحسر استعمالها اليوم جرّاء الخجل والشعور بالنقص أمام الطوفان الجارف للهجة الخليجية المستعملة في المسلسلات التلفزيونية وحسابات مشاهير التواصل الاجتماعي والتي لم تكن حاضرة قبلُ في قُطرنا العُماني، وأصبح نبز مُستَعمِلِ الكلمات العامية الصحيحة بكلمة «شاوي» أي متخلف عن ركب الحضارة والمعاصرة!، رغم أن هذه الكلمة نفسها من الكلمات الفصيحة الواردة في القواميس، كما في اللسان «وَرَجُلٌ شاوِيٌّ: صاحبُ شَاءٍ؛ قَالَ:

ولَسْتُ بشاويٍّ عَلَيْهِ دَمامَةٌ 

إِذا مَا غَدَا يَغْدُو بقَوْسٍ وأَسْهُمِ».


أي أنها كلمة لوصف رجل البادية مقابل رجل الحاضرة في الأساس، ثم تحولت لوصف المتخلف عن ركب المدنية وفق رؤية من يرون المدنية بالمكان الجغرافي فحسب. ولا تقاس الحضارة والمعاصرة بالكلمات المستعملة في حديثنا اليومي أو بمحل إقامة المرء وسُكناه، وليس التطور ترك تلك الكلمات؛ إنما تعرف قيمة الأفراد والأمم بما تنتجه وتفيد به الآخرين لا بلباس غيرها وتغيير لكنتها وموقعها الجغرافي.

https://www.omandaily.om/أعمدة/na/الكتابة-بإصبع-مكسور

تعليقات

المشاركات الشائعة