الفلاحي.. كنز الأرشيف الأدبي | 26 يوليو 2023
يطل علينا الشيخ الأديب الأستاذ أحمد الفلاحي بكتاب جديد بعد موسوعته الشعرية الرائعة «قصائد عمانية» والتي جمع فيها قصائد غررا من مكنون الشعر العماني قديمه وحديثه، وأخرجها في حلة قشيبة في العام المنصرم. ليطل علينا بعد عام بكتاب آخر يخدم الأدب العماني خدمة جليلة، وهو كتابه الموسوم بـ«الشيخ عبدالله الخليلي» بخط عريض، وبأسفله عبارة «كبير أدباء عمان في زمنه»، والشيخ الخليلي جدير بمثل هذا الكتاب لسطوع نجمه وشهرته التي بلغت الآفاق.
يبتدئ الكتاب بمقدمة المؤلف التي يذكر فيها مكانة الشيخ الخليلي الشعرية في زمنه، حيث يقول فيها «ومنذ أبي مسلم البهلاني لم يظهر في عمان شاعر يصل إلى مستواه»، معرجا بالحديث على مضامين شعر الخليلي ومميزاته، وفيها يتجلى رأي الفلاحي في الشعر أيضا في مسألة قديمة تتعلق بالشعر كما بالعلم عند الفقهاء؛ وهي مسألة ما إذا كان قول الشعر شيئا مكتسبا أم موهوبا من الله؟ حيث يقول في مقدمته «والشعر منحة من الله يضعها فيمن شاء من خلقه، لا يُكتسب بالتعلم والتدريب». وتتميز مقدمة الفلاحي بكونها صورة بانورامية عن شخص الخليلي وشعره وعصره، وهي مقدمة ثرية رغم قصرها.
تأتي أهمية هذا الكتاب في كونه يبعث حوارا طويلا أجراه الشيخ المؤلف مع شاعرنا الخليلي، وظل هذا الحوار حبيس الأدراج لثلاثة عقود قبل أن يبصر النور بحلته البهية هذه. وهو الحوار الذي أجراه سنة 1984م، والذي نُشر كاملا في مجلة نزوى بعنوان «الشيخ عبدالله الخليلي أسئلة عن الشعر والشاعر والحياة» في يناير من عام 2020، العدد 101 من المجلة. نقترب في هذا الحوار من شخصية الشيخ الخليلي كثيرا، ففيه تبرز ثقافته الموسوعية، ورؤاه عن الشعر والنقد والنشأة ورجالات ذلك الزمن الجميل بعلمائه وأعلامه، وهو حوار ممتع أيما متعة لكل محب لتلك الفترة الزاهية التي جمعت شعراء وعلماء في اللغة والأدب، بجانب علماء الفقه والدين والسياسة. كما تبرز فيه -أي المقابلة أو الحوار- أشياء لم نعرفها عن شاعرنا الخليلي، وهي من قبيل الأشياء التي لا يعرفها سوى المتحدث عن نفسه؛ ففي السؤال الثالث على سبيل المثال، يتحدث الخليلي عن نقده لشعره ومراجعته إياه مراجعةً موضوعية رغم ما ناله من إشادة واحتفاء بذلك الشعر من أعلام تلك الفترة الذهبية، من أمثال الشيخ خلفان بن جميل السيابي والشيخ إبراهيم بن سعيد العبري -رحمهما الله- وسماحة الشيخ أحمد الخليلي المفتي العام للسلطنة.
مما أحببته في هذه المقابلة اللطيفة، حديث السائل والمسؤول بحرية تامة وبلا تكلف؛ فنجد أستاذنا الفلاحي يسأل أسئلة جريئة يصعب مواجهة الشاعر بها، فضلا عن أن يواجه بها شخصية ذات مكانة اجتماعية وشعرية كبيرة كالشيخ عبدالله الخليلي، والأجمل من ذلك هو إجابات الخليلي عن تلك الأسئلة بحرية وموضوعية ونقد ذاتي رائع قلما تجده عند الشعراء. وذلك من قبيل اعتراف الشاعر بأن لغته الشعرية ظلت قديمة تقليدية وبرر أسباب ذلك بالبيئة وعدم الاختلاط بالأدباء من الأقطار العربية المختلفة حينها، وحتى في الإجابة المطولة عن هذا السؤال -على سبيل المثال- تتبدى الثقافة العالية والاطلاع الواسع للشاعر الشيخ الخليلي.
وفي العموم، فإن هذه المقابلة الثرية جديرة بأن تُدرس؛ ففيها من آراء الشيخ الخليلي في الشعر والنقد وصنوف الأدب والرؤى ومراتب الشعراء والتجديد ونظرته فيه، ما يندر اجتماعه في مقابلة تبدو للوهلة صغيرة الحجم إلا أنها تجمع من الفوائد شيئا كثيرا. وهي تشكل ما يوازي ربع الكتاب.
ثم يتحدث الفلاحي عن ذكرياته مع الشيخ الخليلي، وهي محاضرة ألقاها في الملتقى الأدبي المنعقد في محافظة مسندم بعد 7 سنوات من رحيل الخليلي، أي في عام 2007 الميلادي. وتتميز هذه المحاضرة -الواردة في الكتاب نصا- بأن أستاذنا الفلاحي يحلل فيها الشيخ الخليلي وشعره، ويفكك النتائج ويعيدها إلى أسبابها الأولية، لتتشكل لدى القارئ صورة شاملة عن الخليلي وشعره ومميزاته وعيوبه ورؤاه. متحدثا عن بعض الأعلام العربية البارزة التي كانت لها علاقة بالشاعر الخليلي، كالأستاذ الباحث عزالدين التنوخي من سوريا، والشاعر البحريني الشيخ أحمد بن محمد آل خليفة، والشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم الشارقة الأسبق، والشاعر الفلسطيني أبو حيدر علي هاشم رشيد شقيق الشاعر هارون هاشم رشيد، وغيرهم. وفي المحاضرة نفسها يطلعنا الفلاحي على سمات رآها التلميذ في أستاذه، وعلى أمور وأحداث لا يعرفها إلا المتتبع لها المطّلعُ عليها في وقتها وحينها، وهي من مميزات الشيخ الفلاحي؛ أي تلك الفطنة والنباهة المصحوبة بذاكرة قوية وملكة نقدية تحفظ الشيء من بداية تكوينه حتى منتهاه، محللا الأسباب والنتائج ومطلعا على الخبايا الخفية لأحداث تاريخية تمثل منعطفا ثقافيا مهما. فهو بجانب ذاكرته وحفظه؛ لا يكتفي بذكر الأحداث وحدها، بل يبين لك منشأها وأسباب تطورها أو اندثارها بنظرة فاحصة ممحِّصة؛ وهي في العموم خصلة فريدة ميزت الفلاحي عميد الأدب العماني في أعماله المكتوبة وفي شخصيته الاجتماعية كذلك.
وفي العموم، فإن هذا الكتاب يحمل قيمة عالية تكشف ملامح ظاهرة وأخرى تخفى على من لم يكن قريبا من شاعرنا الشيخ الخليلي كقرب الأستاذ الفلاحي منه. ويشكل الكتاب ملمحا خاصا وعاما عن الشاعر الخليلي؛ فالخاص مواقفه والأحداث التي عايشها واطلع عليها أستاذنا الفلاحي مع أستاذه الخليلي، والعام منها ما كان متداولا ومعروفا لدى الأدباء الذين عايشوا وكانت لهم أواصر صداقة وصحبة مع الشاعر الخليلي. وتتمثل أهمية الكتاب كذلك، في وحدته الموضوعية التي تتحدث لا عن الشيخ عبدالله الخليلي من خلال شعره فحسب، بل تُقرِّبنا وتدنينا منه، لنعرف عبدالله الإنسان والشاعر والمثقف الموسوعي الذي لم يكن منبتا عن وطنه العربي الكبير، بل كان مواكبا لأحداثه وأفراحه ومآسيه؛ فضلا عن وطننا الحبيب عمان.
يذكرنا هذا العمل بقيمة ومهمة يجب تداركها في أسرع وقت ممكن، وهي التوثيق التاريخي للشهادات والأحداث عن فترة خلت بموضوعية وشفافية تامة مستعينين بأناس لهم اطلاع واسع وعاشوا تلك الفترة والتقوا بأبرز أعلامها، من علماء وأدباء وقادة سياسيين كما فعل الشيخ الأديب أحمد الفلاحي في كتابه هذا. أشخاص لا يخبروننا عن النتائج الجميلة والمثالية فحسب، بل يذكرون الأحداث كما حصلت في الواقع. ولهذا الأمر أهميته البالغة في قراءة التاريخ وفهم المجتمع الإنساني لفترة ما في أي بقعة من هذا العالم الفسيح.
ختاما، لا أستطيع إغفال التصميم البديع لغلاف الكتاب، وهو مما يعجبني في كتب الأستاذ الفلاحي وأحبه، فغلاف الكتاب (الداخلي والخارجي على السواء) يكون موشىً برسالة مخطوطة، أو أبيات كتبت بخط اليد من الشاعر والأديب الذي كتبها، وهي من الأمور الخاصة التي لا نستطيع الاطلاع عليها لولا إرفاق صور منها في الكتاب. وكما هو معلوم، فإن خط اليد يسهم في معرفة شخصية الكاتب وبعض سماته العامة ومزاجه لحظة الكتابة، وهي أمور تسهم في إفادة دارسي شخصية الكتَّاب لدى شروعهم بدراسة شخصية ما من منطلقات نفسية اجتماعية تشكل الملمح الكلي عن شخصية المدروس رفقة نتاجه المعرفي.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/الفلاحي-كنز-الأرشيف-الأدبي
تعليقات
إرسال تعليق