لماذا؟ | 12 يوليو 2023



نتساءل دوما عن السبب الذي يجعل حياتنا مختلفة عن أسلافنا، هذا الاختلاف الجذري الذي يجعلنا نشعر بالغربة أينما حللنا، بل ونحمل غربتنا حيث نرتحل. ينبثق التيه من تلك الغربة البدائية، ويطفو فوق الحياة بأكملها. يحلل البعض ذلك التيه النفسي من منطلق ديني بحت، أي البعد عن الله والقرآن الكريم. ويرى آخرون بأنه نتيجة لأحداث حصلت في طفولتنا وتراكمت معنا حتى بلغنا ما بلغناه من العمر، وأن تلك الأحداث وآثارها الدفينة هي ما تجعلنا نعيش هذا التيه، وهذه نظرة علم النفس في أغلبها؛ مع عدم إغفال تعدد المدارس والآراء فيها بلا شك.


حسنا إذن، ما الذي سبب هذه الغربة النفسية والتيه الفكري؟ أهو الابتعاد عن الدين حقا؟ ألا يشعر الإنسان -أي إنسان بغض النظر عن ديانته وتوجهه الفكري- بمثل هذه المشاعر؟. وحيث إن الجواب الواقعي هو الإيجاب، فلا مجال للشك بأن هذه المشاعر عامة بين بني البشر أيا كانت أعراقهم ومذاهبهم الدينية والفكرية والسياسية، وليس الأمر مقصورا على منطقة جغرافية بعينها، بل هي عامة تشمل العالم البشري بأكمله. وليس أدل على ذلك من رواج دورات التأمل الروحي والبحث عن الذات وبرامج الوعي بالذات والآخر وما يتبعها من كتب ودراسات في كل لغات ومناطق العالم.


تدفعنا هذه النتيجة إلى البحث عن الأسباب الحقيقية وراء هذه المعضلة، ومن يفرش بساط التاريخ ويرى ما تغير؛ يجد أن الطفرة التاريخية المختلفة حصلت خلال المائة والخمسين عاما المنصرمة فحسب. فهذا التطور التكنولوجي الهائل والعالم المترامي الأطراف الذي أصبح «قرية صغيرة» وفق العبارة المتداولة بين الناس، لم يعد مخيفا، لم يعد مجهولا ينتظر الاكتشاف، لم تعد تُنسج حوله القصص الخرافية والأسطورية التي تحاول تعظيم المجهول والغائب والبعيد، حيث لم يعد هنالك مغزى لهذا كله. وبعد أن فرغ الإنسان من اكتشاف العالم والأرض، عاد ألفي سنة للوراء آخذا بالنصيحة المنسوبة إلى سقراط ذلك الحكيم القديم «اعرف نفسك».


وهنا بالتحديد، أي بعد هذه الرحلة البشرية الممتدة؛ لم يعد يعرف الإنسان نفسه. هل هو يُعرِّف نفسه من منظور ديني؟ جغرافي؟ لغوي؟، أم كيف يفعل!. حيث إن هذه الأشياء جميعها تماهت وصارت كُلَّا واحدا، عدا بعض الشكليات المرتبطة بالأمور الرسمية والتي تحددها البقعة الجغرافية التي يعيش فيها الإنسان، أي الدولة.


نعود إلى السؤال، ما الذي تغير إذن؟. حصل التغير الكبير جراء هذا التماهي، والذي بدوره جاء كنتيجة حتمية للعولمة والدولة العالمية الكبيرة. فلم يعد الأمر مقتصرا على اللغة القُطرية وتشابهها، بل تعداه لتكون اللغة والعادات والشكل الاجتماعي والحياة اليومية متشابهة في كل مكان. ويتفاوت هذا التماهي بين منطقة وأخرى، ففي العالم العربي على سبيل المثال؛ نجد القروي والبدوي والبحار والشاويَّ، نجدهم جميعا يحملون هوياتهم الصغيرة بداخلهم ويذيبونها في المدينة. فهم يقطنون المدينة جميعهم، ولكن المدينة القلبية لكل واحد منهم مختلفة عن الآخر. وبعبارة مبسطة، أصبحت فردانية كل واحد منهم ذائبة في القالب الكبير للوعي الجمعي، أما تلك الفردانية التي تعني الأصالة والتميز الذي يستأثر به كل فرد على حدة، فيظل مكبوتا في أعماق قلوبهم ولا يظهر للسطح بتاتا.


أزعم أن ما يمنحنا الطمأنينة كأفراد على هذه البقعة من العالم، شيء تشترك فيه الإنسانية جمعاء، أي أنه شيء يجري على الصيني كما على الأمريكي، وعلى العربي والروسي، والأسترالي والإفريقي، يجري على كل واحد منا. وهي في الحقيقة مجموعة أشياء لا شيء واحد فحسب، ذكرتها المؤلفة الأسترالية «بروني وير» بعبقرية في كتابها الذي ترجمته جرير تحت عنوان «أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت». وقد تعمدت عدم ذكرها مجردة لسبب وحيد، وهو أن لكل شيء من هذه الأشياء الخمسة تفصيلا يتبعه ويختبئ بين سطور كل فصل من فصول الكتاب؛ فلو ذكرتها مجردة من هذا التفصيل لما شعر القارئ بأهميتها وإسقاطها على جميع البشر، ولما وجد أثرها الذي أعنيه في هذا السياق.


تفرقنا كبشر أشياء كثيرة، اللغة، الموطن، العرق، الدين؛ ولكن العدالة الإلهية ساوت بيننا فيما يصيبنا في الحياة، وساوت بيننا في الموت كذلك. فالمشترك الإنساني هو ما يوحدنا ويهذبنا أمام أنفسنا أولا، وأمام الآخرين. ولو عرفنا أنفسنا حقا، لعرفنا الآخرين جيدا، ولنلنا السعادة التي يتحدث عنها الفلاسفة القدماء والحديثون.

https://www.omandaily.om/أعمدة/na/لماذا

تعليقات

المشاركات الشائعة