الموت كمعيار أخلاقي | 19 يوليو 2023


سأتحدث في هذا المقال عن ثلاث مراحل في حياة الإنسان، التراب، فالطين، فالخزف الكامل. يشكل المعيار الأخلاقي للمرء -أي مرء- هاجسا قلقا يرافقه منذ تشكل وعيه الأولي بالحياة، حتى آخر رمق فيه. فالطفل على سبيل المثال ومنذ نعومة أظفاره، يتحسس المراحل الأولى والسور الأول للأخلاق، فالمقطع الصوتي الذي يقوله الوالدان لطفلهما «كخ» وهو لمَّا يُكمل الحولين بعدُ، يفهم منه أنه فعل شيئا خاطئا لا يجب فعله، ويتشكل هذا الوعي البدئي بقرينة مصاحبة كالضرب اللطيف غير المؤذي على يده، أو إخراج ما يضعه الطفل في فمه، ذلك المختبر الأولي للأشياء في عالم الأطفال، أو لنقل إنها المجسات التي يدرك بها الموجودات بدءًا ويضيفها إلى قائمة معارفه التي تتسع بتقدمه في العمر، ولكن تلك القرينة ما تلبث أن تختفي، لتبدأ الرحلة الحقيقية للطفل وهو يخوض غمار الحياة، وهذه مرحلة التراب الأولى.


تبدأ المرحلة الثانية من وعينا في التشكل حين ندخل المدرسة، وفي المدرسة يبدأ المعيار الأخلاقي بالاتساع والضيق وفقا لما نمر به من مشاهد نعايشها أو أحداث نشارك فيها أو حوارات نخوضها في تلك المرحلة العمرية المتقدمة، ولكنها مرحلة مفصلية في حياتنا. فلم يعد العالم مقصورا على البيت الذي نسكنه، والحي الذي نلعب فيه، والعائلة الكبيرة من أعمام وأخوال وأطفالهم؛ بل أصبح ممتدا شاسعا يسع مئات من البيوت -حيث كل طِفلٍ بيتٌ- ومثلها من الثقافات الخاصة المميزة لكل بيت، بل يظهر الفرق حتى في اللهجة الغريبة التي لم نعتد سماعها في البيت أو الحي. يمثل كل ذلك دهشة ثانية تشبه الدهشة الأولى وفتحا للفرد يلج منه إلى العالم الجديد، وهنا يصير التراب طينا يبدأ بالتماسك شيئا فشيئا.


تبدأ المرحلة الحقيقية للوعي بعدما تنتهي المدرسة، وبدقة أكثر حين نبدأ العمل؛ سواء أعملنا قبل الدخول إلى الكليات والجامعات أو بعدها. هنا يظهر المعدن الذي تشكل في المرحلتين السابقتين، ويصير الطين البدئي خزفا فريدا، فلا مجال للعودة هنا إلى مرحلة التراب وبدرجة أقل ولكنها صعبة جدا؛ يمكن العودة في هذه المرحلة إلى مرحلة الطين لنأخذ منه شيئا يكمل النقص الذي سببته تعرية الخزف وصقله، كُلٌّ حسب وعيه وطاقته واهتمامه. تتجلى في هذه المرحلة الحياةُ بواقعيتها المحضة، فلم يعد هنالك متسع كي ترتدي القناع المثالي الذي كنا نُلبسه إياها في المرحلتين السابقتين ونظرتنا إليها بصورة حالمة ملائكية، بل هي تفرض نفسها فرضا لا لَبْسَ فيه ولا مواربة. نبدأ هنا بالتساؤل عن معنى الحياة، الخير والشر، الحدود الأخلاقية، والمغزى من هذا كله.


يمر كثير من الشباب في هذه المرحلة من حياتهم بفترة من التيه الموصل إلى العدمية أحيانا، وليست هذه العدمية سوى نتيجة مباشرة للخطوط العريضة التي لا يمكن تجاوزها في مرحلتي الطفولة والمراهقة. وهي من قبيل الأسئلة الوجودية التي لا يستطيع الوالدان، والمعلم الإجابة عنها، وليست الاستطاعة محصورة هنا في الجهل، إنما قد يكون من قبيل عدم معرفة كيفية التعامل مع السائل وسؤاله الشائك. تلك الأسئلة التي تعزز الشعور بالخوف والرهبة لدى السائل كي لا يتم ضربه في صباه، أو إقصاؤه دينيا واجتماعيا وعمليا في بعض الأحيان. أسئلة مشروعة يتجاوزها المرء بعد فترة من الزمن، أكان ذلك التجاوز جراء تجاهلها وإغماض العينين عنها، أو البحث عن الإجابات التي سيصل إليها حافيا مضرجا بالدماء بعد طريق وعر مليء بالشوك والمسامير والوحدة المفزعة.


يبدأ القلق الأخلاقي في المرحلة الأخيرة عند مواجهة أشياء حقيقية ومفصلية، فلم نعد نكترث بالقلم الذي سرقه زميل لنا في الصف، أو بتفضيل الأستاذ للطالب الفلاني؛ بل يصبح السؤال عن السبب الحقيقي وليس آثاره، أي عن الخير والشر مباشرة وليس آثارهما المتمثلة في الطيبة، الصدق، الأمانة، والشجاعة المندرجة تحت آثار الخير. أو الشراسة، الكذب، الخيانة، والجبن التي هي من آثار الشر. يبرز الموت كحدث مفصلي رهيب له قداسته وهيبته، ونتعامل معه في حال العدمية كدافع يؤهلنا لفعل الشر، حيث لا فائدة تُرتجى من هذا الوجود ولا نفع. ويكون على النقيض في حال الوعي بالحياة أو الوجودية بمعناها اللغوي المضاد للعدمية، حيث الموت هو الدافع الحقيقي لنا كي نفعل الخير في حياتنا التي مآلها الفناء وخاتمتها الرحيل. وهو ما يتجلى -أي في حالَيْ العدمية والوجودية- في الفلسفة والأدب مذ وُجِدَ البشر، فالتفكير سابق على الكتابة بطبيعة الحال، وما وصلنا فهو مما بقي بعد اختراع الكتابة ومما نجى من صروف الزمن.


الموت كمعيار أخلاقي يجعلنا نحدد الخير والشر ونعرفهما على الحقيقة، وقد تنبه أسلافنا العرب إلى هذه المسألة، فأودعوها أشعارهم وقصائدهم. فالشعر عند العرب مواز للملاحم والأساطير عند الشعوب الأخرى، وله مكانته الخاصة التي أدركها أسلافنا بوعي تام، فهذا أبو تمام يقول:

وَلَولا خِلالٌ سَنَّها الشِعرُ ما دَرى

بُغاةُ النَدى مِن أَينَ تُؤتى المَكارِمُ


ورد البيت بهذه الصورة في الجزء الثالث من ديوان أبي تمَّام بشرح الخطيب التبريزي وتحقيق محمد عبده عزَّام في الطبعة الخامسة منه والتي طبعتها دار المعارف. حسنا، ما علاقة الشعر بكلامنا هذا كله؟. كان الشعر ولا يزال مما تلهج ألسنة الناس بذكره في المواقف الحسنة والقبيحة على السواء، بغض النظر أكان فصيحا أم شعبيا باللهجة الدارجة. وفي الشعر يتكرر الحض على المكارم وفعلها، ونيل الخير الدنيوي والأخروي بها، كقول العماني الفذ ابن دريد في مقصورته:

وَإِنَّمَا الْمَرْءُ حَدِيثٌ بَعْدَهُ

فَكُنْ حَدِيثًا حسنا لمن وعى


ولا يكون الحديث حسنا عن المرء إلا بفعل الخير، ولا تكون الأخلاق بحال من الأحوال مناقضة للخير؛ أي أن الأخلاق والخير شيء واحد لا اختلاف بينهما. وبإدراك المرء أن حياته قصيرة محدودة، يدرك أن فرص فعل الخير محدودة كذلك، فلا تطمح نفسه إلى أن يقترف ما يخالف هذا الإدراك، ولا تجنح بحال إلى الشر وما يقرب منه ويُدني إليه. ومن لطيف قول ابن دريد، أن بيته جاء مطلقا لا مقيدا، فهو لم يربط فعل الخير بالثواب الأخروي فحسب؛ أي أن هذا البيت ومثيلاته مما يتمثَّلُهُ كل إنسان أيا كانت فلسفته في الحياة ووعيه وعقيدته. وفي الحقيقة فإن إدراك مصيرنا الحتمي لا يحدد المعيار الأخلاقي الذي نتبعه فحسب، بل يبسط لنا رؤية شمولية عمَّا يهمنا وما ينبغي أن نركز عليه ونفعله في حياتنا. فنترك هوامش الحياة وحواشيها، ونأخذ بلُبِّها ومتونها. ليكون كُلُّ واحد منا خزَّافا يصنع نسخته الخاصة والفريدة التي تُرضيه هو ذاته في المقام الأول، وتؤهله كي يكون «حديثا حسنا لمن وعى».

https://www.omandaily.om/أعمدة/na/الموت-كمعيار-أخلاقي

تعليقات

المشاركات الشائعة