رمنسة البؤس | 26 أبريل 2023
تطرأ على المجتمعات البشرية لحظات صعود وهبوط، ومرض وقوة، وهمة وفتور؛ فهي كالإنسان تماما تمر بمراحل مختلفة بل ومتضادة أحيانا، وما يجري على مجتمع بعينه، قد يجري على مجتمعات أخرى مشابهة له، وقد تكون حالة إنسانية عالمية يشترك فيها الناس جميعا، ويشترك الناقدون والدارسون بدراستها في شتى ربوع المعمورة.
ومن هذه الظواهر التي وسمت الفترة الزمنية الحالية من الحضارة البشرية، ظاهرة رمنسة البؤس، ويعني هذا المصطلح أن يتم تجميل البؤس وإلباسه لبوس الرومانسية والصورة الحالمة المضيئة. في ليلة رمضانية هادئة، تجاذبت مع صديقي أطراف الحديث عن هذه الظاهرة، وكي أكون منصفا فاسم هذه الظاهرة المستعمل هنا من إنشائه، ثم أخبرني أنه قرأها في تغريدة لرجل غربي بلغته الإنجليزية، وإنما اهتدى إلى الاسم من تلك التغريدة على موقع تويتر.
تتلخص ظاهرة رمنسة البؤس في كون فئة غير قليلة من الشباب ممن يُلصقون بأنفسهم أوهاما وهلوسات عن كونهم مصابين بمرض نفسي يجعلهم مميزين عن غيرهم، كما أن الأمر ذاته ينطبق على من يُصاب بمصيبة يجعله يقتات عليها لأهداف قد تكون ظاهرة له، وأخرى تختلج في نفسه ولا تتكشف له جرّاء تلك الأوهام المغلوطة. ومما يميز المرض النفسي عن الجسدي، وهنا أقتبس عبارة ذلك الصديق «في بعض الأمراض النفسية، تكون هنالك فوائد مصاحبة لذلك المرض..». ما الفوائد التي يقصدها؟، إنها بلا شك فوائد تحتمل الصحة والخطأ، ومنها ما يميز المصاب بذلك المرض النفسي إصابة حقيقية لا توهما. وهي قدراته العقلية الجبارة، أو قدرته على العمل لساعات طويلة متواصلة بجودة عالية، أو احترافه لشيء دقيق يجعل الآخرين يرونه بمظهر مختلف ويعاملونه وفق الصورة المتكونة لديهم عن الأشخاص الخارقين للعادة والقدرة الطبيعية.
ينحو كثير من الأفراد اليوم بسبب مواقع التواصل الاجتماعي وما أتاحته من فرصة للظهور وتكوين جمهور خاص لكل صاحب حساب فيها، إلى فعل أشياء لا تتطابق في أحيان كثيرة مع شخصياتهم الحقيقية، بل قد تناقض الصورة الظاهرة للمرء على صفحات مواقع التواصل شخصيته الحقيقية وقناعاته التي يتبناها بصدق. وكل هذا لأجل لذة الشعور بالمكانة، الحب، الاهتمام؛ أي مشاعر مزيفة يوهم الفرد نفسه أن مواقع التواصل الاجتماعي تحققها له وتمنحها إياه. كما أسهمت صفحات تدعي أنها تنشر حقائق علمية أو تحفيزية هذه الرغبة الشرسة بالشعور العالي بالتميز والفرادة، فتقرأ في منشور -على سبيل المثال- «الأشخاص الذين لا ينامون في الليل ويشعرون بالاكتئاب الحاد، هم الأشخاص الأعلى ذكاء»، ويقنع المرء نفسه أن هذه حقيقة علمية دون أن يكلف نفسه عناء البحث والتقصي!. هذه الرغبة الدفينة بالشعور بالتميز تجعل الواقع تحت وهمها ينغمس في إيذاء نفسه من حيث لا يدري، فيفعل ما يناقض المنطق السليم موهما نفسه أنه أحد المصابين بثنائية القطب كالمؤلف الفلاني الناجح، أو بانفصام الشخصية كالمدير التنفيذي الذي حقق المليارات، أو قائد فرقة الأوركسترا ذي الميول الانتحارية!.
هل هذا يعني أن المرض النفسي امتياز حقا؟ وهل كل مصاب بالمرض النفسي أيا كان نوعه، إنسان مميز ومتفوق على الآخرين؟ ليس كذلك بتاتا. بل إن ما يقاسيه المريض النفسي صاحب القدرة العقلية الجبارة أو المهارة العملية والعلمية الفريدة من بؤس؛ يجعله يبذل أضعاف ما يبذله الشخص السليم لتحقيق حياة سليمة هادئة وبعيدة عن هذا المَسِّ الموجع «المرض النفسي»، ويعمل جاهدا على تخفيف حدة المرض إن لم يستطع التخلص منه تماما. الخلاصة البسيطة والواضحة، أن المرض النفسي ليس امتيازا، وحالات الاكتئاب الحادة التي تمس المصابين بها ليست شيئا ساحرا يولد الإبداع، بل إن المصاب بها حقيقة يتمنى عيش الحياة الهادئة البسيطة بعيدا عن الإنجازات الوهمية والوسام السحري «التميز والفرادة» مقابل التخلي عن ذلك المرض الذي يقاسيه بشدة وتوجّع. وهنا يكمن دور الباحثين والعاملين في مجال الصحة النفسية وعلم النفس والفلسفة العلاجية في الدولة لدراسة هذه الظاهرة دراسة ناقدة، وتقديم العلاج والحلول اللازمة لهدم الأوهام غير العلمية والضارة في آن. يبرز اسم المؤلف والفيلسوف آلان دو بوتون بتميز كأحد الفاعلين في مجال الفلسفة العلاجية الذي ترجمت له دار التنوير عدة كتب تعالج موضوعات الحزن والبؤس والبحث عن المكانة وغيرها من الموضوعات التي ترتبط ارتباطا وثيقا بما طرحناه في هذا المقال. كما أن كتب دار كلمة التابعة لهيئة أبو ظبي للسياحة والثقافة، ككتاب «الحزن الخبيث: تشريح الاكتئاب» من تأليف لويس ولبرت وترجمة عبلة عودة، من الكتب البارزة التي تحلل وتعالج القضايا المشابهة بصيغة علمية وأدبية في آن، تسهل قراءتها وفهمها من قبل جميع القراء بأسلوب سهل وميسر يفتح آفاقا رحبة للتعامل بموضوعية وحيادية مع مسائل نفسية شائكة كهذه، وتقدم حلولا مقترحة تعين المصاب الحقيقي على التخلص من معاناته وبؤسه.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/رمنسة-البؤس
تعليقات
إرسال تعليق