البطاريق الكبار - رهين المحبسين 3 | 17 نوفمبر 2022



تلوح للقارئ المُطَّلِعِ شُهُبٌ عملاقة، تضيء سماء الحياة، حتى لتكاد تغدو شموسا تستقي منها شمسنا ضوءها ونورها الساطعَين، ويجد بين هذه الشهب نجوما ثابتة لا مثيل لها، فهي نادرة ندرة الدُّرِّ، والشعراء شُهبٌ تلوح مسرعة، فينير ضوؤها لجة العصور التي عاشوا فيها، ومنهم من يكون نجما ثابتا أبد الدهر، كأبي العلاء المعري. لم أجد أحدا يشبه المعري في الشطر الآخر من العالم إلا الألماني الكبير نيتشه، فلطالما ندر وجود امرئ يجمع بين الشعر والفلسفة في آن، فأساس الشعر حرارة العاطفة، وأساس الفلسفة خلو العقل من مكدرات العاطفة! وهذان النجمان جمعا الشعر والفلسفة فكانت كتابتهما عذبة سلسالة؛ فلا تخلو فلسفتهما من الشعر، ولا يخلو شعرهما من الفلسفة، بقلمٍ سيَّالٍ لا يُشعر القارئ بوعورة المقروء ولا بتصخُّر الكلمات والأفكار. يقال أيضا، بأن الناقد لا يستطيع أن يكتب الشعر، فنقده للشعر يُفقده الحرارة الشعرية؛ لكن فيلسوفنا الشاعر وشاعرنا الفيلسوف، جمع المتناقضات الحسنة، وظل مثالا للقدرة البشرية على الخروج من الأُطر القاصرة.


وقد ذكرت في الجزء الثاني من هذه المقالة الطبعات التي عدت إليها في سبيل الكتابة عن رأس البطاريق وكبيرهم، ونتجول اليوم في العالم السحري لكتاب المعري الأول، ألا وهو ديوانه سقط الزند.


يبتدئ المعري ديوانه بمقدمة سماها «خطبة سقط الزند» وهي مقدمة كتبتها يد عالم نحرير وأديب فذ، تذكرنا بالمقدمات التي يمكن أن تُتخذ سراجا لما بعدها، فبالرغم من قصر المقدمة وإيجازها؛ إلا أنه ذكر فيها ما لا يمكن تجاوزه وضرب الصفح عنه، بل هي مما يحسن الوقوف عليه وتدبره، حيث يقول ضمن مقدمته «أما بعد فإن الشعراءَ كأفراسٍ تتابعن في مدى، ما قصَّرَ منها لُحِقَ، وما وَقَفَ ذِيمَ وسُبِقَ، وقد كُنتُ في رُبَّان الحداثة وجُنِّ النشاط، مائلا في صَغْوِ القريض، أعتدُّهّ بعض مآثر الأديب، ومن أشرف مراتب البليغ، ثم رفضته رَفْضَ السقبِ غَرسه والرَّألِ تريكتَه، رغبةً عن أدبٍ مُعظمُ جيِّدِه كذب، ورديئُهُ يَنْقُصُ ويَجدُب، وليس الرِّيُّ عن التشافِّ.


ويُعلِمُكَ بجني الشجرةِ، الواحدةُ من ثمرها، ويدلُّكَ على خُزَامى الأرضِ، النفحةُ من رائحتها. ولم أطرق مسامع الرؤساءِ بالنشيدِ، ولا مدحتُ طالبا للثواب، وإنما كان ذلك على معنى الرياضة وامتحانِ السَّوسِ». فهو بقوله هذا، جعل الشعراء مراتب شبهها بالأفراس في السباق؛ ولكنه يخبرنا عن نفسه كذلك. فهو يخبرنا بالسبب الذي جعله يقرض الشعر، والسبب الذي جعله ينصرف عنه كذلك، كما أنه كشف لنا لمحات من نفسية هذا الرائد الكبير علما وبيانا ومنزلةً. ثم يضيف بعد ذلك فيقول «والشعر للخَلَدِ، مثلُ الصورةِ لليدِ، يُمثِّلُ الصانعُ ما لا حقيقةَ له، ويقولُ الخاطِرُ ما لو طُولِبَ به لأنكرَهُ». فنجد ها هنا رأيا فنيا لمعنى الشعر عند هذا الناقد الممارس لما ينقده؛ رغم أن من يقرأ قصائد رثائه، خصوصا تلك التي مطلعها

خُـلُوُّ فـؤادي بالمَـوَدّةِ إخْـلالُ 

وإبْلاءُ جِـسـمي في طِلابِكِ إبْلالُ


والتي يرثي بها أمَّهُ، يجده يكتبها بكبدٍ محترقة، وقلب مزّقه ذلك الفقد، فلهذا كله بقيت قصائد رثائه حاضرة وبقوة حتى اليوم يتمثل بها الناس في حياتهم اليومية وعند كل فقد.

https://www.omandaily.om/أعمدة/na/البطاريق-الكبار-رهين-المحبسين-3-876995

تعليقات

المشاركات الشائعة