أحمد شوقي يلتقي جورج أورويل | 30 يناير 2025
يحيا الشعر مرة
بعد أخرى كلما ظن الناس أنه خبا ومات ، بل إنه ينهض من تحت الأنقاض كما تنتفض
العنقاء ، فيعرّي نظريات موت الشعر والأدب وتهمة ابتعاده عن حياة وواقع الناس. يمثل
الشعر الجدار الذي نتكئ عليه بعد يوم مرهق ، السند الذي نستند إليه عند حلول مصيبة
، والثلج الذي يهب بنسائمه على صدورنا كلما ابتغينا أملا نهرب به من واقع الحياة
القاسي إلى المزيد والمزيد من الحياة ، كما يدفع مدرب السباحة تلميذه الذي يخشى
الغرق إلى عمق الحوض ووسط البركة. كان الشعر في يوم من الأيام الشيء الذي نتحدث به
، ونتمثل به في السراء والضراء ، بل وفي السخرية والتهكم أيضا ؛ لكنه يختبئ أحيانا
في شقوق الذاكرة ، ثم يعود إلى الحياة من بعيد ، يعود إلى الضوء من بعد غيابة
النسيان.
يبدو التشاؤم
الخيار الأسهل دائما ، فمن الأسهل أن نتلفع بغطاء دافئ في الصباحات الشتوية بدلا
من القيام والعمل. من الأسهل أن نستسلم للموت البطيء أو اليأس من المقاومة وتحمل
المشقة. لكن متطلبات الحياة وواقعها ، والمشاهد التي نشاهدها وتتجسد في أشخاص
ليسوا أكثر بشرية منا ليفعلوا ما بدا أنه خيالي وأسطوري ، إنما هم أكثر إيمانا
وعملا بذلك الإيمان في أنفسهم وواقعهم من الآخرين الذين يستسلمون للدعة السامة
مقابل المشقة التي تمنح الحرية والانعتاق. بدا أننا نسينا القصيدة الخالدة لأحمد
شوقي في نكبة دمشق ، التي قالها حين قصف الفرنسيون دمشق تلك المدينة المليئة
بالناس والتاريخ والحضارة ، ورغم أنه كان قصفا مدمرا ؛ إلا أن الناس بذلوا في سبيل
حريتهم وبقاء وطنهم الغالي والنفيس ، وهل هنالك أغلى من الروح والدم؟.
كتب شوقي قصيدته
"نكبة دمشق" والشهيرة والمعروفة بمطلعها البديع البهي
سَلامٌ مِن صَبا
بَرَدى أَرَقُّ وَدَمعٌ لا يُكَفكَفُ يا دِمَشقُ
لكن هذه القصيدة التي بدا أن غبار الأيام
تراكم عليها وطواها ، عادت إلى الحياة بقوة وعنفوان ، وذلك لأن زعيم حركة المقاومة
الإسلامية يحيى السنوار ظهرت له مؤخرا مقاطع مصورة ضمن برنامج "ما خفي
أعظم" وهو في ميدان المقاومة والقتال فيما بدا وكأنه لقطة من فيلم سينمائي
بطولي ، لا أنه حقيقة وواقع! ، وهو يردد بيتا من القصيدة
وَلِلحُرِّيَّةِ
الحَمراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ
مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
جعلني هذا المقطع أتأمل المشهد وأتساءل
بصدق ، كيف يمكن لبيت من الشعر أن يجعل المرء يبتسم وسط المعركة والدمار المحيط
به؟ كيف لبيت من الشعر أن يكون وقودا للإرادة في مواجهة الظلم والقهر والبطش
والجنون! ، كيف له أن يفعل ذلك؟. إن أيسر إجابة وأقربها كما أرى ، أن الشعر الذي
ينبع من الواقع بمساوئه قبل محاسنه ، وآلامه قبل أفراحه ؛ يتجسد في حياة الناس
واقعا ملموسا. فهو ليس فذلكة لغوية تودع الكتب والمخازن ، بل هي كلمات تعيش في
قلوب المؤمنين بها ، تحركهم وتبث فيهم الأمل والحياة.
من مصادفات الأقدار أن الكتب والبشر تتقاطع
مساراتهم في شيء من العجائبية التي يصعب تفسيرها. فرسالة الغفران للمعري ، يقابلها
جحيم دانتي. وبيت لشاعر عربي قديم ، يطابق نظرية علمية اكتشفت حديثا ، وهكذا تمضي
الحياة. ومن المفارقات ، أن يقرأ الإنسان كتابا عن
أمة أو شعب عاش في حقبة ما ، في بقعة ما من الوجود ؛ ويجد نظيرا لها في بقعة وحقبة
مختلفة عنها. ومن ذاك ، رواية جورج أورويل 1984 التي أحدثت هزة عنيفة في أوروبا
والعالم في القرن المنصرم ، والتشابهات والإسقاطات التي بدت كما لو أنها مكتوبة في
سبيل توصيف أسباب ونتائج ووقائع حرب الإبادة الصهيونية على غزة. ".. بعد ذلك سددت
الهيلوكوبتر قنبلة زنتها عشرين كغم إلى الزورق مع وهج مروع فيتحطم
القارب تماماً إلى شظايا خشبية صغيرة. ثم عرضت لقطة مدهشة ليد طفل
وهي ترتفع إلى الاعلى بخط مستقيم في الهواء وطائرة الهيلوكوبتر مع كاميرا في
مقدمتها تقتفي أثرها.كان هناك الكثير من التصفيق يصدر عن مقاعد الحفلة، لكن امرأة في الجزء المخصص للشغيلة
من القاعة قفزت فجأة باهتياج وهي تصرخ «ما كان عليهم ان
يعرضوا ذلك امام الاطفال.........)) حتى طردها البوليس". إنه مشهد اعتاد الناس مشاهدته في حرب الإبادة
التي ستدخل أسبوعها الثالث من الهدنة ، فقد كان الصحفيون والمتظاهرون الهدف المفضل
للشرطة في بلدان الديمقراطية الأوروبية والأمريكية ، وهي مشاهد تكررت حتى في
مداخلات الصحفيين بعد كلمة المتحدث باسم البيت الأبيض أو كلمات بلينكن الكثيرة.
يتساءل أورويل في
روايته "..كيف سيكون بإمكانك الاحتكام إلى المستقبل عندما لن يكون بالإمكان
لأي أثر منك حتى ولو كان كلمة مبهمة خربشت على قطعة ورق ، أن يبقى ماديا؟" ثم
يتحدث عن المعلومات التي لا وجود مادي لها -أي التي لا توجد في الأوراق والكتب-
وهو ما يتطابق تطابقا مذهلا مع القضية الفلسطينية والرواية الصهيونية التي تروج
نفسها ، حيث يقول "..إنها في وعيه الخاص فقط ، الوعي الذي ينبغي على أية حال
أن يُلغى في الحال ، فإذا ما تقبل الآخرون جميعا الأكذوبة التي فرضها الحزب -وإذا
ما كانت كل السجلات تذكر نفس الحكاية- عندئذ ستدخل هذه الكذبة التاريخ لتصبح حقيقة
واقعة". لأنه وببساطة "..كيف تستطيع أن تثبت حتى أكثر الحقائق وضوحا
عندما لا تكون هناك أية سجلات خارج ذاكرتك الخاصة؟". إن ما يفعله شوقي
وأورويل وكل من له أثر في سرد الوقائع والأحداث وتوصيفها ، هو اتحاد الجانب
الخيِّر من البشرية في سبيل حفظ الماضي والحاضر. لأن "إعادة بناء
الماضي" واحدة من أساليب الشر لتطويع وتطبيع ما لا يمكن قبوله بحال ولا يمس
للحقيقة بصلة. ومن عجائب رواية أورويل ، تلك الفقرة التي يتحدث فيها عن وزارة
السلام ، وهي ما سيجد القارئ تجسيدا لها فيما مضى من أحداث على غزة ولبنان واليمن
وسوريا من قِبل الكيان الصهيوني "..قام بتصميم قنبلة يدوية تبنتها وزارة
السلام وتسببت في مقتل واحد وثلاثين أسيرا أوراسيا في انفجار واحد". يلتقي
أورويل بشوقي إذن ، يلتقيان في الذاكرة والمآسي المتجددة التي يتعلم العالم أنها
سنتنهي بالأيادي المضرجة ، يلتقيان رغم القصف والبطش والقهر والإبادة. ولننظر بعين
اليوم إلى قصيدة شوقي ، ولنتأمل ؛ أكانت قصيدته قديمة طواها الزمن؟ أم أنها واقع
يتجدد اليوم؟
وَلِلمُستَعمِرينَ وَإِن أَلانوا قُلوبٌ كَالحِجارَةِ لا تَرِقُّ
بِلادٌ ماتَ فِتيَتُها لِتَحيا وَزالوا
دونَ قَومِهِمُ لِيَبقوا
وَحُرِّرَتِ الشُعوبُ عَلى قَناها فَكَيفَ عَلى قَناها تُستَرَقُّ
وَيَجمَعُنا إِذا اختَلَفَت بِلادٌ بَيانٌ
غَيرُ مُختَلِفٍ وَنُطقُ
وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُرٍّ يَدٌ سَلَفَت وَدَينٌ مُستَحِقُّ
فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَياةٌ وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/أحمد-شوقي-يلتقي-جورج-أورويل
تعليقات
إرسال تعليق