عام البصيرة | 9 يناير 2025

 



تمر الأيام ونحن نتأمل ذلك المرور بتشظي الآلام والأحزان ، أو ببهجة الإنجاز وفرحة الوصول. وما بين المسير والمصير ، تأتي على الإنسان لحظات يلزمه فيها أن يُخرج بوصلته اللامرئية ، تلك التي تختفي في أعماق قلبه وروحه ، البوصلة التي تذكره بالمكان والزمان والوجهة ، ليتبعها مصححا الطريق ، ومذكرا نفسه بالغاية التي يصبو إليها والوجهة التي ارتضاها قبلة ومبدأ لحياته. لم تكن حياتنا قبل وسائل التواصل الاجتماعي هي حياتنا اليوم ، ثم ما لبثت تلك الأيام التي كنا نصفها بأسوأ الأوصاف أن تبدت لنا نعيما مقابل جحيم التطور في الأدوات ، والذي منحنا برنامج ChatGPT وغيره من برامج الذكاء الاصطناعي. وفي الحقيقة ليس التطور هو السيء أو الذي ينبغي مواجهته ومجابهته ، إنما الكيفية التي نستعمل بها تطور الأدوات في حياتنا  ، فإما أن تكون أدوات مساعدة لنا ، وإما أن نتخذها ركنا نلجأ إليه والغشاوة تغطي أعيننا فلا نرى إلا عبر ذلك الركن ولا نفكر إلا عبره ومن خلاله.

تتراجع منزلة الكتاب شيئا فشيئا. يأتي المذياع ، فيكتشف الناس ملهاة جديدة. ثم التلفاز ، فيغدو محطة لصناعة الرأي والعقول. ثم الإنترنت ، فيغدو العالم غرفة صغيرة نلتقي فيها بكل الناس بأشكالهم وألوانهم وثقافاتهم المختلفة المتنوعة. وبعدما وصلنا إلى مرحلة اللاعودة كما يراها بعض الخبراء التقنيين ، باتت البديهيات البشرية في التعارف والتقارب والتلاقي والهم المشترك شيئا من ضروب الخيال ، وعالم الفانتازيا الشيّق. لذلك ظهرت الدورات التي تعلم الناس آداب المجالس ، من حديث وملبس ومأكل ومشرب وحركات وسكنات ، وهي أشياء لم يكن يتخيل الجيل القديم أن تكون مما يتم تعليمه أو تفرد له دورات بمبالغ مالية مجزية. عالم غريب يجعل الفجوة بين الناس أكبر وأكبر ، ويحيل العلاقات الحية والبديهي المعروف بالفطرة ، شيئا يعودون إليه كما العودة إلى الذكريات ، ألبومٌ صغير في درج منسي ، أو شيئا غريبا شاذا لم يعرفوه من قبل.

يتبوأ الكتاب منزلته ومكانته اليوم باعتباره الناجي الوحيد ، الناجي الأخير من طوفان التشابه والتطابق والتفاهة ، الناجي الحكيم الذي يعرف الحياة قبل أن تغدو البشرية روبوتات أكثر آلية من الروبوتات الحقيقية. ولكن مشتتات العصر الحديث تجعل علاقتنا بالكتاب مضطربة عسيرة ، فلا يستطيع المرء عيش حياته بلا إنترنت إلا بمشقة تفوق القدرة على تصورها حتى، وأعني هنا الإنسان العامل الفاعل في الحياة الذي لا يزال على رأس عمله ويطلب الرزق يوما بيوم.

لأجل هذا كله ، ولأنني ابن عصري وبيئتي ، تفكرت في الشيء الذي تغير في السنوات القليلة الماضية ، تفكرت في عقليتي والأفكار التي أتبناها والحجج المنطقية والمنطق السليم ، تفكرت في كل ما يمكن أن يجعلنا أناسا أفضل ويقلّص سديم التيه والجهل وفقدان البوصلة ؛ فلم أجد الجواب إلا في الكتاب. لأجل هذا كله ، أطلقت في نهاية السنة المنصرمة فكرة مشروع ثقافي غير مادي يتعلق بالقراءة والكتب ، وهو مشروع عام البصيرة لهذه السنة الجديدة. وتعتمد فكرة المشروع بشكل رئيس على قراءة عدد من الكتب المتنوعة ، وحيث أن المرء يقوى ويتحفز لبذل المزيد حين يكون في مجموعة تشاركه الهدف والوجهة ؛ فقد شاركت الأصدقاء هذا المشروع وجعلته عاما مشاعا لمن يشاء. وترتكز فكرة المشروع على قراءة كتاب ما ، ثم تلخيصه ومشاركة ذلك التلخيص إما في وسائل التواصل الاجتماعي أو في المواقع المختصة بنشر مراجعات الكتب ، وينبغي أن يستعمل في كل تلخيص وسم #عام_البصيرة .

أما عن عدد الكتب المراد إنجازها ، فإن الهدف هو خمسون كتابا في العام. وستشمل مراجعات القرّاء رصيدا مهما يرفد الثقافة العربية ، ويثري المحتوى العربي والعماني ، كما أن القراءة لمؤلفين عمانيين ثم الكتابة عن كتبهم وإنتاجهم المعرفي ، يمثل قيمة مضافة تعزز مكانة الثقافة والمثقف العماني في الساحة العربية. ويحدوني الأمل في أن يكون هذا المشروع الثقافي التطوعي مما يرفع اسم الوطن ويغير في القارئ شيئا يصحح مسار حياته وتفكيره ورؤيته ، فالمواطن المثقف أقدر على الإبداع الذي سيصب في مصلحة نفسه وأهله ووطنه. وإذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي هي من يشكل الوعي اليوم ، فإن بيدنا أن نشكل وعينا البديل عنها ، وأن نستعملها ببصيرة العارف لمساوئها ومحاسنها ، فتكون سلاحا للإنسان لا سلاحا عليه ، ويغدو عام البصيرة حياةً كاملة تحركها المعرفة ويوجهها المنطق السوي. 


تعليقات

المشاركات الشائعة