امنحها فرصة! | 12 أبريل 2023



يقول المتنبي:

وكم من عائب قولا صحيحا

وآفته من الفهم السقيم


ويقول لك الفقهاء: «الحكم على الشيء فرع عن تصوره». وفي المجمل، يعرف المرء ويتعلم الكثير من الأمثال والحكم سماعا أو تلقينا أو قراءة طوال حياته، ولكن هذا كله لا يعدل شيئا أمام الفعل، أي العمل؛ فمعرفتك الشيء أمر حسن، والأحسن منه تطبيقك لما تعرف. قرأت مرة عبارة لعالم الأعصاب البرتغالي أنتونيو داماسيو، يقول فيها: «البشر آلات إحساس قادرة على التفكير، وليسوا آلات تفكير قادرة على الإحساس».


يتبدى ذلك جليا في حكمنا على كثير من الأمور في حياتنا، فمن شراء نوع الجبن الذي نستهلكه إلى قراءة كتاب ما لمؤلف ما، ومن قبولنا لرأي أو حقيقة علمية مثبتة إلى رفضنا لذلك الرأي وتلك الحقيقة، نجد أن المرء يوجه نفسه توجيها لقبول ما يود قبوله ورفض كل ما عداه، ما دام في نفسه استعداد لذلك القبول أو شعور مسبق يعضد رفضه. ومن هذا المنطلق نفسه، نجد أن هنالك فئة من القراء -على سبيل المثال- لا يستطيعون القراءة لمؤلف حصل بينهم وبينه موقف، ولا يستطيعون القراءة في مجال أو تخصص تكونت لديهم مشاعر وأفكار تجاه ذلك المجال، ومتى ما عزلوا تلك المشاعر والأفكار المسبقة وعملوا على تنحيتها، اكتشفوا أنهم فوتوا على أنفسهم متعة الاكتشاف والمعرفة على السواء. وهذا ينطبق على فكرتنا عن مجال بعينه، وبدرجة أقل على مشاعرنا تجاه ما يكتبه المؤلف الفلاني. وفي الحقيقة، نحن لا نحاكم ما يكتبه المؤلف في أحيان كثيرة، بل نحاكم شخصه؛ وأرى لذلك مسوغا إن كان الأدب هو المجال الإبداعي للمؤلف؛ لأن الأدب لا ينبع إلا من الروح، ومتى شاهت تلك الروح، مسَّ الكتابة طيفٌ من ذلك الشوه.


ليس هنالك شيء أقسى على المرء من نفسه، وإذا رجعنا إلى المتنبي مرة أخرى، نجده يقول:

وإذا كانت النفوس كبارا

تعبت في مرادها الأجسام


هذا التوق إلى الكمال البشري، هو ما يدفع المرء في عمله وحياته وقراءاته، وهو الذي يرسم خط أفعاله الذي يفترض بأنها ستوصله إلى النتيجة النهائية في نظره؛ الكمال. لكن الطريق إلى الكمال شاق متعب، ومتى استثنى الإنسان شيئا من خياراته، ابتعد عن بلوغ ما يرجوه، وقد يكتشف ذلك في وقت متأخر جدا، حين يعيد لتلك الخيارات أهميتها وحضورها.


في نقاش قديم مع أحد الأصدقاء، قال لي بأنه لا يستبعد قراءة أي كتاب في أي مجال، بل إن متعة الاكتشاف ولذة المعرفة، نالها من كتب اختارها بمحض المصادفة، إما في غرفة انتظار أو في مقهى أو في الحافلة. وما كان ينبغي أن يكون تزجية للوقت، أي فعل القراءة لأجل تزجية الوقت وتسلية النفس وهو الذي يسميه العمانيون «نجزّر وقت»، صار أساسا ودافعا لفعل التغيير واكتشاف النفس، وضوء آخر لنفق الحياة الشاق.


في معرض الكتاب الأخير، اخترت كتبا لطالما ذممتها ونفرت منها، وقمت بعمل بحث بسيط حول كل كتاب من تلك الكتب لأبتاع أفضلها وأكتشف ما بداخله وسبب تأثيره على الناس؛ وكانت المفاجأة أنني كنت أعمم الحكم على مجال بأكمله جرَّاء تصوري بأن ذلك المجال سيئ بالقياس إلى سوء من يروجون له في مجتمعنا العربي، واكتشفت أن المؤلفين البارعين المتخصصين في ذلك المجال لم يدخروا جهدهم في البحث والقراءة والتجربة لسنوات وسنوات قبل أن يخرج الكتاب إلى الوجود، وقبل أن تتم ترجمته إلى لغتنا العربية.


خلاصة هذا كله، إننا يجب أن نمنح أنفسنا الفرصة لاكتشاف العوالم الفكرية التي ترسخت لدينا أفكار معارضة لها، وقد يكون ما ظللنا نبتعد عنه؛ هو الأقرب إلى أرواحنا وذواتنا.

https://www.omandaily.om/أعمدة/na/أعطها-فرصة

تعليقات

المشاركات الشائعة