البطاريق الكبار - الحبسي "1" | 05 أكتوبر 2022
ذكرنا في الجزء الأول من هذه السلسلة سبب عنونة المقال، والبيت الذي استلهمنا منه عنوان هذه السلسلة التي تتناول طرفا من حياة شعراء وأدباء ولغويين فقدوا البصر، واستبدلوا به البصيرة الثاقبة؛ حتى إن أحدهم ليصف مشهدا يعجز البصير عن وصفه بمثله.
وقد كانت فاتحة السلسة بالشاعر الكبير بشار بن برد الملقب بالمُرَعَّثِ، والرجل الذي نتناول طرفا من حياته وشعره في هذا المقال، هو الشاعر العماني العملاق راشد بن خميس بن جمعة بن أحمد الحبسي. ولد شاعرنا في ولاية عبري، بقرية عين بني صارخ في السنة التاسعة والثمانين بعد الألف من الهجرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام. وقد ذكرت بالنص هذه العبارة من ديوان الحبسي الذي حققه الشاعر المصري عبدالعليم عيسى وطبعته وزارة التراث القومي والثقافة حينها في العام 1982م. ونجد المحقق يذكر في الهامش أنه رجع إلى كتاب التوفيقات الإلهامية لمحمد مختار باشا ليجد أن تاريخ ولادة شاعرنا يوافق سنة 1678 ميلادية. ولهذا التاريخ دلالته، فشاعرنا ولد إبان الدولة اليعربية التي حكمت عمان لقرن وقرابة العقدين من الزمان، وفي خضم المآسي التي حاقت بعُمان في تلك الفترة والصراعات السياسية القبلية، وقد حاولت الوصول إلى أكبر قدر ممكن من المصادر التي تعينني على معرفة المزيد عن شاعرنا، فوجدت أن مقدمة محقق ديوانه أفضل ما كتب عنه، ولعلي أجد في قادم الوقت المزيد من المصادر.
فقد الحبسي بصره وهو ابن ستة أشهر، ولذلك يقال له ضرير؛ والضرير من فقد بصره بعدما كان مبصرا، أما الكفيف فهو من ولد وهو فاقد لبصره. وكما هو معلوم فإن المرء يميل إلى أشباهه؛ هكذا نجد الحبسي متأثرا بشيخ العميان والمبصرين، ألا وهو حكيم المعرة أبي العلاء المعري. ونجده متأثرا بالمُرَعَّثِ، بشار بن بن برد ومن ذلك أنه يقول في بيت بديع مليء بالحكمة والأمل في لفظ حسن رشيق:
عُسرُ الزمان إلى يُسرٍ نهايته
والصعب يغدو ذلولا بعدما جَمحا
وهو على شاكلة بيت بشار في الوزن والقافية، وهما بيتاه الشهيران:
لا يُؤيِسَنَّكَ مِن مُخَدَّرَةٍ
قَولٌ تُغَلِّظُهُ وَإِن جَرَحا
عُسرُ النِساءِ إِلى مُياسَرَةٍ
وَالصَعبُ يُمكِنُ بَعدَ ما جَمَحا
وهذا مثال على تضمينه لشعره كثيرا من معاني السابقين، بل إنه ليقترب من التطابق في الكلمات المستعملة.
تذكرني مقدمة المحقق بكتاب ابن الأثير "المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر"، وذلك حين يقول عبدالعليم عيسى متحدثا عن شاعرنا في مقدمة التحقيق" ومن المؤكد أن الشاعر كان واقفا على اللغة وأطراف من العلوم، وكان مستوعبا الشعر العربي القديم والقرآن الكريم، ولهذا نراه يكثر من اقتباسه من التنزيل، مثل قوله في مدح الإمام سلطان بن سيف:
جاهد الكافرين واغلظ عليهم
واجعلنهم لمن يعاديك وعظا
فهو من قوله تعالى "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ". وذلك أن ابن الأثير في كتابه ذكر في الفصل الثاني من كتابه، في الجزء الأول منه "في آلات علم البيان وأدواته"، ذكر ثمانية أنواع؛ سادسها "حفظ القرآن الكريم". واقتبس كلام ابن الأثير من الجزء الأول من الكتاب الذي طبعته دار الرفاعي عام 1983م في طبعته الثانية "وأما النوع السادس وهو حفظ القرآن الكريم، فإن صاحب هذه الصناعة ينبغي له أن يكون عارفا بذلك، لأن فيه فوائد كثيرة، منها أنه يضمِّن كلامه بالآيات في أماكنها اللائقة بها، ومواضعها المناسبة لها، ولا شبهة فيما يصير للكلام بذلك من الفخامة والجزالة والرونق.
ومنها أنه إذا عرف مواقع البلاغة وأسرار الفصاحة المودَعَة في تأليف القرآن اتخذه بحرًا يستخرج منه الدرر والجواهر، ويودعها مطاوي كلامه، كما فعلتُه أنا فيما أنشأته من المكاتبات، وكفى بالقرآن الكريم وحده آلة وأداة في استعمال أفانين الكلام. فعليك أيها المتوشِّح لهذه الصناعة بحفظه، والفحص عن سره، وغامض رموزه وإشاراته، فإنه تجارة لن تبور، ومنبع لا يغور، وكنز يرجع إليه، وذخر يعول عليه." ص84-85.
فكأنما الحبسيُّ طبق كلام ابن الأثر بحذافيره، مع صعوبة الجزم بأن الحبسي اطلع على كتاب ابن الأثير؛ لفقدانه بصره وللوضع الاجتماعي السياسي الذي حاق بعمان في تلك الفترة الصعبة. وسنعرض في الجزء الثاني من هذا المقال لبعض أبيات الحبسي و القصائد العذبة لشاعرنا المفلق.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/البطاريق-الكبار-الحبسي-1
تعليقات
إرسال تعليق