البطاريق الكبار - المُرَعَّثُ (1) | 10 أغسطس 2022



نطالع في معجم لسان العرب في مادة بطرق "الْبِطْرِيقُ بِلُغَةِ أَهْلِ الشَّامِ وَالرُّومِ: هُوَ الْقَائِدُ، مُعَرَّبٌ، وَجَمْعُهُ بَطَارِقَةٌ. وَفِي حَدِيثِ هِرَقْلَ: فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ وَعِنْدَهُ بَطَارِقَتُهُ مِنَ الرُّومِ، هُوَ جَمْعُ بِطْرِيقِ، وَهُوَ الْحَاذِقُ بِالْحَرْبِ وَأُمُورِهَا بِلُغَةِ الرُّومِ، وَهُوَ ذُو مَنْصِبٍ وَتَقَدُّمٍ عِنْدَهُمْ، وَأَنْشَدَ ابْنُ بَرِّيٍّ:

فَلَا تُنْكِرُونِي، إِنَّ قَوْمِي أَعِزَّةٌ 

بَطَارِقَةٌ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كِرَامُ


وَيُقَالُ: إِنَّ الْبِطْرِيقَ عَرَبِيٌّ وَافَقَ الْعَجَمِيَّ وَهِيَ لُغَةُ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَقَالَ أُمَيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ:

مِنْ كُلِ بِطْرِيقٍ لِبِطْ 

رِيقٍ نَقِيِّ الْوَجْهِ وَاضِحْ


ابْنُ سِيدَهْ: الْبِطْرِيقُ الْعَظِيمُ مِنَ الرُّومِ، وَقِيلَ: هُوَ الْوَضِيءُ الْمُعْجَبُ وَلَا تُوصَفُ بِهِ الْمَرْأَةُ". ص 300 لسان العرب الجزء الأول - دار المعارف.


كنت أستمع إلى التسجيل المبثوث عبر أثير برنامج الساوندكلاود، لبرنامج رائع يقدمه عارف حجاوي، وهو برنامج "ترانيم عربية" والذي اختار فيه أبياتا لشعراء فطاحل كالبهاء زهير وأبي العتاهية ومسلم بن الوليد وبشار بن برد وغيرهم؛ وحين استمعت إلى قول بشار بن برد الملقَّب بالمُرَعَّثِ:

إِذَا انْقَلَبَ الزَّمَانُ عَلاَ بِعَبْدٍ 

وسَفَّلَ بالبَطَارِيقِ الكِبَارِ


خطرت لي فكرة هذه السلسلة والتي سأتناول فيها طرفا من حياة شعراء وأدباء ولغويين فقدوا البصر، واستبدلوه بالبصيرة الثاقبة؛ حتى إن أحدهم ليصف مشهدا يعجز البصير عن وصفه بمثله.


وقد اعتمدت في مقالي هذا عن بشار بن برد على ثمانية مراجع، ستكون حجر الأساس فيما يأتي من ترجمة للبطاريق الذين ذكرت صفتهم؛ وهي طبقات فحول الشعراء لابن سلَّام الجُمَحي، الشعر والشعراء لابن قتيبة، العقد الفريد لابن عبدربه الأندلسي، الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وفيات الأعيان لابن خِلِّكان، والأعلام للزِّرِكْلِي، وتاريخ الأدب العربي للدكتور شوقي ضيف، وهي مرتَّبة من الأقدم إلى الأحدث.


وقد نظرت في الكتب المتقدمة لترجمة حياة شاعرنا ابن برد، فلم أجد أحسن ترجمة لحياته من ترجمة الدكتور شوقي ضيف في كتابه تاريخ الأدب العربي - العصر العباسي الأول "ولد بشار بن برد بن يرجوخ بالبصرة لأوائل العقد العاشر من القرن الأول للهجرة". ثم يقول "وقد نسب نفسه من جهة أمه إلى الروم، إذ يقول:

وقيصرُ خالي إذا 

عددتُ يوما نسبي


وإن صح ذلك كان فارسي الأب رومي الأم... وقد ولدته أعمى فما نظر إلى الدنيا قط، وفي ذلك يقول:

عميتُ جنينا والذكاءُ من العمى 

فجئتُ عجيب الظنِّ للعلمِ موئِلا


وحددت آفة بشار حياته منذ نعومة أظفاره... ولم يكد يبلغ العاشرة حتى أخذ ينبوع الشعر يسيل على لسانه" صـ201-202. وقد لُقِّبَ بالمُرَعَّثِ وقد "قيل لبشار المُرَعَّثُ، لأنه كان يلبس في أذنه وهو صغير رعاثا". صـ113 تاريخ بغداد الجزء السابع. نطالع في مادة رعث في معجم لسان العرب لابن منظور "والرَّعْثُ والرَّعْثة: ما عُلِّقَ بالأُذُن من قُرْط ونحوه، والجمع: رِعَثَةٌ ورِعاثٌ... وكان بَشَّارُ بنُ بُرْدٍ يُلَقَّبُ بالمُرَعَّثِ، سُمي بذلك لرِعاثٍ كانت له في صغَره في أُذُنه". صـ1668 لسان العرب الجزء الثالث.


نجد الذكر الأول لابن برد في طبقات فحول الشعراء لابن سَلَّام الجُمَحي الذي يقول العلَّامة محمود محمد شاكر في مقدمة تحقيقه للكتاب يصف كتاب ابن سلَّام "وهو خليق بأن تبذل في دراسته الأعوام لأنه أقدم كتاب وصل إلينا من كتب قدماء نقاد الأدب والشعر، بل لعله طليعة كتب النقد في الأدب العربي، وهو حقيق بهذه المنزلة من التقديم والإجلال". صـ69 طبقات فحول الشعراء الجزء الأول. وهو إذ يذكره في كتابه، لا يذكره على سبيل الرواية عنه ونقد شعره وإدراجه في طبقة من الطبقات العشر التي قسَّمها ابن سلَّامٍ في كتابه؛ وإنما يذكره في معرض سؤاله إياه عن الأخطل وجرير والفرزدق، فهو -ابن سلَّام- يسأله سؤال التلميذ للمعلم، والمعتل للطبيب الحاذق "سألت بشارا العقيلي عن الثلاثة، فقال: لم يكن الأخطل مثلهما، ولكنَّ ربيعة تعصَّبت له وأفرطت فيه. فقلت: فجريرٌ والفرزدق؟ قال: كان جريرٌ يحسن ضروبا من الشعر لا يُحسِنها الفرزدق. وفضَّلَ جريرا عليه". صـ374 طبقات فحول الشعراء الجزء الأول. ثم يورد ابن سلَّام الحديث ذاته مع زيادة فيه في صـ456 "ولقد ماتت النَّوارُ فقاموا ينوحون عليها بشعر جرير". والنوار زوجة الفرزدق، فكان الأجدى بأن يكون نواحهم عليها وتذكرهم إياها بشعر زوجها، لا بمرثيات ندِّه اللدود.


وكان بشار رجلا ذا دُعابة، حتى في مواقف الشدة والألم، ومن ذلك ما روي عنه أنه كان يهجو الناس فكان أول موضوع يَنْظِمُ فيه هو الهجاء، فكان أبوه "يضربه بسببه -الهجاء- ضربا مبرحا لكثرة ما يشكو الناس منه، وكانت أمه لا تزال تستعطفه عليه، فيقول: إني لأرحمه، ولكنه يتعرض للناس، فقال له بشار: قُل لهم، أليس الله يقول "ليس على الأعمى حرج". وعادوا إلى بُرد يرددون شكواهم، فتلا عليهم الآية الكريمة، فانصرفوا وهم يقولون: فِقْهُ بُردٍ أغيظُ لنا من شِعرِ بشَّار". صـ202 تاريخ الأدب العربي - العصر العباسي الأول.


كان المُرَعَّثُ ذكيا فطنا، وقد قال له الأصمعي متعجبا "ما رأيت أذكى منك قطُّ! فقال: هذا لأني ولدت ضريرا واشتغلت عن الخواطر للنظر". صـ114 تاريخ بغداد الجزء السابع. وقد فضَّل إمام العربية أبو عبيدة مَعْمَرُ بن المُثَنَّى بشارا على مروان بن أبي حفصة حين سأله أبو حاتم "قلتُ لأبي عبيدة: مروان أشعر أم بشار؟ قال: حَكَمَ بشار لنفسه بالاستظهار، لأنه قال ثلاثة عشر ألف بيت جيِّدٍ، ولا يكون عدد شعر شعراء الجاهلية والإسلام هذا العدد، وما أحسبهم برزوا في مثلها، ومروان أمدح للملوك". صـ116 تاريخ بغداد الجزء السابع. وللسبب الأخير ذاته، أي مدح الملوك، ربما لم تكن لبشار حظوة ومكانة، فاستمر في هجائه حتى قَتَلَهُ. وقد اختلف المؤرخون في سبب قتله الحقيقي؛ فنجد ابن قتيبة يقول "وكان بشار هجا المهدي، وذكر شُغلَهُ بالشراب واللهو، فأمر به فقُتِلَ تغريقا في الماء" صـ760، الشعر والشعراء الجزء الثاني. بينما يورد ابن خلكان في المجلد الأول من وفيات الأعيان سبب موته نقلا عن الطبري في تاريخه "كان سبب قتل المهدي لبشار أن المهدي ولَّى صالح بن داود أخا يعقوب بن داود ولايةً، فهجاه بشار" صـ273. فحاك المَهجِيُّ دسيسة أودت بشاعرنا. وأيا كانت الرواية الصحيحة من هاتين الروايتين، فالذي قتله هو الهجاء، أما ما يُنسب إليه وما اشتُهر عنه بأنه كان زنديقا، فهي الرواية التي بثَّتها حاشية المهدي بعد قتله. حتى أن ابن قتيبة ذكر ذلك بصيغة فيها شيء من الشك حيث يقول "ويُرمى بالزندقة، وهو مع ذلك يقول:

كَيفَ يَبكي لِمِحبَسٍ في طُلولِ 

مَن سَيُقـصى لِحَبسِ يَومٍ طَويلِ


إِنَّ في الحَشرِ وَالحِسابِ لَشُغلًا 

عَـن وُقـوفٍ بِكُلِّ رَسمٍ مُحيلِ"


صـ757، الشعر والشعراء الجزء الثاني.

https://www.omandaily.om/أعمدة/na/البطاريق-الكبار-المرعث-1

تعليقات

المشاركات الشائعة