البطاريق الكبار – الحبسي2 | 19 أكتوبر 2022
نكمل اليوم الجزء الثاني من مقالنا عن شاعر عمان الخالد، راشد بن خميس بن جمعة الحبسي ضمن هذه السلسلة التي تتناول طرفا من حياة ومؤلفات بطاريقها فيما يشبه الصورة البانورامية لمشهد يستحيل نسيانه أو طمسه من صفحات التاريخ.
يتكون ديوان الحبسي من اثني عشر بابا، مبدؤها الباب الذي هو «في المدائح النبوية التي امتدح بها خير البرية محمد صلى الله عليه وسلم وفي الدعاء والتضرع إلى الله تعالى، وهو مرتب من أبحر الشعر كلها، وعلى القوافي كلها من الهمزة إلى الياء». وقد أعجبتني القصيدة الثانية من هذا الباب، وهي على قافية الباء الموحدة قالها على بحر البسيط، والتي مطلعها:
ميسي حياء فما في ذاك من رَغَبي
ولا وصالك من همي ولا أربي
ولا تظني نهتني عن زيارتكم
كراهةٌ يا خيار الخُرَّدِ العرُبِ
لكن تبدلت من حال قد انقلبت
حالا دعتني إلى التوقير والأدب
وقصيدته التي من بحر الطويل ومنها:
ومُعلَمةٍ صارت نسيجةَ وحدِهَا
من الشعر تُنبي عن ذكيِّ المدائح
يقول العرب «هذا نسيج وحده»، أي لا نظير له ولا مثيل. وأضمن للقارئ المتعة البالغة والدهشة الدائمة لدى قراءته لهذا الباب. فأن يمدح الشاعر عن حب أو يرثي عن حب، فهذا قمة الشعر؛ لأنه لا يرجو من مدحه ولا رثائه مالا ولا عطية، بل هي خلجات النفس تضطرم مشاعر صادقة، فتفوح مسكا عبقا منظوما في كلمات نسميها الشعر. فكيف إن كان الحبيب ميتا لا سبيل إلى الوصول إليه ولا لقائه، فهناك جذوة الشعر والمشاعر دائمة التوقد والضياء.
أما الباب الثاني من هذا الديوان، فخصصه صاحبه «في المدائح اليعربية التي امتدح بها من أدركه من السادة الأئمة ملوك آل يعرب ملكا بعد ملك على التوالي». وفي القصيدة الأولى من هذا الباب نجده يمتدح الإمام بلعرب بن سلطان بن سيف، وضمّنها أبياتا عذبة سلسالة من الغزل، ومنها:
أجرُّ ذيل الصبا بين الحسان وما
يبدو من السر لم يظهر ولم يبن
فما سفكتُ دما إلا على ثقة
ولا تضمن سري غير مؤتَمن
وكنت ربَّ ثراءٍ وافرٍ فجرى
إنفاقه في مقاساةِ الهوى فَضَنِي
حتى تملّك روحي من كلِفتُ به
وكان بيعي له قَطعا بلا ثمن
أي أنه كان ذا مال وثراء، فدفع ثروته في هوى المحبوب حتى كَلِف بذلك، وبيع القطع من الكلمات الشائعة لدى العمانيين حتى فترة قريبة، ونجدها تتكرر في الصكوك القديمة؛ ومعناها أنه بيعٌ نهائيٌّ لا رجعة فيه، وشاعرنا ابتاع هوى محبوبه ابتياعا لا رجعة فيه، بل هو هوى دائم صادق أبديٌّ.
ثم يأتي الباب الثالث الذي هو «في المدائح الغافرية التي امتدح بها الإمام محمد بن ناصر الغافري»، يعقبه باب «في مدائح قضاة المسلمين وولاتهم ومن اشتمل عليهم نثرا ونظما». والباب الرابع من هذا الديوان، باب عذب صادق، لأنه خصصه في مدح أصدقائه وإخوانه والمكاتبات التي بينه وبينهم. وفي مطلع الباب الرابع نجده يمدح صديقه الشاعر المفلق خلف بن سنان الغافري صاحب ديوان «إيقاظ الوسنان» الذي طبعته مكتبة السيد محمد بن أحمد ألبوسعيدي، وجمعه الشيخ الفقيه سيف بن حمود البطاشي. ومن الأبيات العذبة في هذا الباب:
لما أبى إلا التفرق بيننا
صرفُ النوى وتقلب الأيام
وتباعدت منا الديار ومنكم
بتباعد الأشباح والأقدام
وتركتم المشتاق بعدُ وعينهُ
تبكي بعينَي عُروة بن حزام
وعروة بن حزام هذا، شاعر يُضرب به المثل في البكاء الدائم على معشوقته عفراء. نجد شاعرنا الفصيح ذا البيان يبتدئ بعض مكاتباته بنثر حسن يضاهي حُسن قصائده، فهو أديبٌ فذٌّ لا يغلبه القلم ولا القريحة. ومن ذلك أنه يتصرف في الشعر كيف شاء، فلا نجده يمتدح محبيه ومن يرجو نوالهم فحسب، ويقصر عن هجاء مبغضيه ليكف شرهم، أو أنه قصر شعره على النسيب دون الرثاء؛ بل نراه شاعرا فحلا يقول الكلام الجزل البليغ في مواضعه، فيتصرف فيه كيف شاء ببراعة وحسن منطق.
هكذا نجد شاعرنا رغم البون الشاسع -زمنيا- بينه وبين فحول الشعراء، رجلا فصيحا نبيلا ونبيها أرخت له العربية عنانها، فسلك بها كل مسلك، وأناخها في مرتع خصب نضِرٍ، فانسابت شعرا زلالا من شفتيه وتلقَّاها التاريخ بالبهجة والدهشة والخلود، فصار شاعرنا العماني من بطاريق العرب وفصحائهم.
https://www.omandaily.om/أعمدة/na/البطاريق-الكبار-الحبسي2
تعليقات
إرسال تعليق